الأخذ بالخاطر “عن بُعد“…
لم تعد مجالس العزاء مناسبةً لعرض السيدات آخر صيحات الموضة، من ألبسة وأحذية وشعر مصفوف وطلاء أظافر معتنى بها، ونظارات شمس “Signée” لإخفاء العينين الذابلتين، كما لم تعد حيزاً إجتماعياً لتبادل الأحاديث والثرثرات فينتسى الفقيد في الصالة وحسرة أهله المفجوعين لغيابه. ولم يعد باستطاعة أهل الراحل العزيز، البكاء على كتف أصحاب “المرحوم” أو معانقتهم. واقع حال جديد، فرضته الكورونا على عادات مجتمعنا. فكيف نعوض على أهل الفقيد؟
تحولت التعزية حديثاً في مجتمعنا اللبناني الى “مناسبة اجتماعية” للاستعراض بدلاً من التعاطف مع أهل الفقيد ومواساتهم. وعلى الرغم من ذلك، لا شيء أصعب من فقدان عزيز مهما كان عمره، ولا توجد كلمات تعبر عن حجم الحزن وألم الفراق في قلوب الأحبة، ويأتي دور الأقارب والأصدقاء للتخفيف ومواساة أهل الميت ومشاركتهم حزنهم والوقوف الى جانبهم لتخطي محنتهم. تقليد غيّبته الكورونا، عند جميع الطوائف والأديان في لبنان، وفي العالم أجمع.
لا سلام أو قبلات…
أظلمت زاوية في قلب روميو بعد فراق عمته الحبيبة قبل شهر تقريباً من دون أن يتمكن من مشاركة حزنه أو أن يعبر عن ألمه لعائلته وأصحابه، فاكتفى بتودعيها مع بعض افراد عائلته، يجلس كل واحد بعيداً عن الآخر مسافة متر ونصف. يقول روميو: “الموت في الاساس فكرة يصعب جدّاً تقبلها. وقد لمست أهمية مواساة الاصدقاء لأهل الفقيد. ماتت عمتي من دون ان يودعها جيرانها. ماتت من دون أن يواسي أحد ابنتها… لا سلام لا قبلات لا اخذ بين الاحضان، كله غاب عنّا. اكتفينا بالنظر الى بعضنا البعض بعيون تبكي من ألم الفراق… ولعلّ أكثر ما أزعجني وصول ابن عمتي من كندا الذي لم أره منذ اكثر من 15 سنة، من دون أن أتمكن من استقباله أو تعزيته كما يجب بغياب أمه… وقفت بعيداً عنه، تبادلنا النظرات والدموع تملأ أعيننا… فاختصرت نظراتنا كل شيء”.
الكنيسة… تشكر تفهمكم
نمرّ اليوم بمرحلة استثنائية وبأزمة انسانية جدّية، ما جعل الكنيسة تتخذ تدابير استثنائية قاسية، فعُلقت على الاثر كل اللقاءات الجماعية انطلاقاً من “كرامة الحياة” المبدأ المسيحي الأساسي، لأن حياتنا البشرية مقدسة، ومن واجب المسيحيين المحافظة على قدسيتها.
فالموت اليوم بلا عزاء… كُتب على أهل الفقيد توديع فقيدهم لوحدهم، حفاظاً على حياتهم وحياة غيرهم، والاكتفاء باستقبال مكالمات أو رسائل العزاء عبر هواتفهم. الالتزام واضح من قبل غالبية المسيحيين في هذا الموضوع، بحسب ما يوضحه الخوري إيلي الخوري قائلاً: “تفاجأت بوعي الناس واحترامهم لتوجيهات الكنيسة، فلا أحد يقبل ان يعرّض نفسه أو غيره للخطر. ولكن هذا لا يعني اننا لا نشعر بغصة أهل الفقيد وحرقة قلوبهم، لذلك نشكر الجميع على تضحياتهم والتزامهم، وليعلموا أنّ أعمالهم هذه ستكون سبب رحمة لموتاهم. كذلك، أتوجه الى أصدقاء الفقيد وأحبائه طالباً منهم ألا يتأخروا أبداً عن ذكر الميت بصلواتهم في المنزل، فهي مسموعة أيضاً”.
منذ البداية، اهتمت الكنيسة كثيراً بموضوع الموت، وكانت الاحتفالات الخاصة تُعقد دائماً في هذا الظرف، ويعتبر الاحتفال بالموت من أقدم احتفالات الكنيسة، حيث كانت تقام أوائل القداديس في “الدياميس” التي تحتوي على المدافن. ولهذا الكثير من الدلالات، بحسب الخوري الذي عدّد أبرزها قائلاً: “اولاً التعبير عن ايمان الكنسية بالحياة والرجاء والانتصار على الموت، وبقيامة يسوع المسيح، فنحن نعلم أنّه لا يمكن ان تنتهي قصة الانسان في لحظة بسيطة، لذلك نحتفل بموته وبانتقاله الى جوار الرب. ثانياً الشفاعة، بما أنه لا يمكن أن نتواصل مع موتانا بعد انتقالهم من هذه الحياة سوى عن طريق الصلاة، كخطوة تضامنية بين الكنيسة المنظورة على الارض والكنيسة الموجودة عند الرب. ثالثاً التضامن مع أهل الفقيد، ومساعدتهم على عيش حزنهم بطريقة جماعية بدل كبته والشعور بالوحدة. فالكنيسة ترفض أن يعيش أي مسيحي حزنه لوحده، وكما قال بولس الرسول: “ابكوا مع الباكين” (روما 12:15). لذلك، نحن نؤمن بأنّ هذه المرحلة ستمر وسنعيش عاداتنا المسيحية مجدداً التي تعبر عن ايماننا العميق”.
عندما ينقلب الواجب الى حرام
كما عند المسيحيين كذلك عند المسلمين، تأدية واجب العزاء للتخفيف ومواساة أهل الميت، لها أجر وثواب عظيم. الالتزام شبه كلي عند المسلمين، من مبدأ عدم الاستهانة بما يجري، ولعدم زج المجتمعات بعملية افناء ذاتي، بحسب الشيخ محمد حيدر الذي يؤكد أنّ “حفظ المجتمعات عندنا واجب. نعم، يجب إكرام الميت ودفنه، ولكن من دون أن يؤدي ذلك الى مفاسد أخرى قد تطاول المجتمع بأسره. لذلك يجب الانصياع لما يقوله أهل الخبرة في عالم الطب للحد من انتشار وباء كورونا. فالامر الواجب يتحول الى حرام اذا كان يضر بالأفراد، من هنا وجوب الاستعاضة عن القيام بواجب العزاء الجماعي في هذه الفترة، ويمكن لمحبي الفقيد الدعاء له، والثناء على محاسنه وذكره بالخير من منازلهم، والاتصال بأهله عبر الوسائل المتاحة”. قد تتحول عادات محمودة في زمن ما الى أخرى غير مستحبة في زمن آخر، من هنا واجب اختيار الاساليب التي تتوافق وتنسجم مع ما وصلنا اليه من حال. وفي وقت يؤكد الشرع الحنيف على القيام بالواجب، يشرح الشيخ حيدر عن وجود نوعين من الواجب؛ الاول العيني الذي يفرض قيام كل فرد بنفسه بالصلاة والصوم مثلاً. والثاني الكفائي مثل تجهيز الميت وغسله ودفنه والصلاة عليه، واذا لم يقم المجتمع بأسره بهذا الواجب، أثمَ المجتمع كله. أمّا اذا قام به فرد، بقي على الفرد الآخر مستحب ان يقوم به، ولكن شرط ألا يتعارض مع واقع صحي أو وباء، لان باب المزاحمة في الشرع يفصل بين المهم والأهم، واذا تزاحم المهم والأهم قدمنا الأهم على المهم. وفي ظل وباء كورونا يفترض الرجوع الى اهل الخبرة من الاطباء والعمل بتوصياتهم. ونعطي الصوم مثالاً على ذلك، فنحن نعلم أنّه واجب، ولكن اذا كان يؤثر على صحة المؤمن بحسب طبيب موثوق، عندها ينقلب الواجب الى حرام”.
كرموا موتاكم ولو بعد حين
من شبه المستحيل أن تدخل عادة العزاء عن بُعد الى لبنان مع انتهاء الكورونا، لأنّ “مجتمعنا ما بيرحم”، عكس المجتمع الاوروبي، بحسب المساعدة الاجتماعية الاخت لميا زيادة من راهبات العائلة المقدّسة المارونيات، التي ترى أنّ “عادة الاتصال للقيام بواجب العزاء التي فرضتها كورونا مزعجة جدّاً على أهل الفقيد، فبعضهم يكون غير قادر عن الاجابة على الاتصالات المتتالية. ولا تخفى التأثيرات السلبية الناتجة عن هذه الخطوة على اهل الفقيد على المستوى العاطفي، وخصوصاً أنّهم لم يتمكنوا في هذه الظروف من مرافقته في المستشفى او البيت، في مرحلة نزاعه مع المرض أو حتّى في مرحلة انتقاله من هذه الحياة الى الحياة الأخرى. كذلك، على المستوى النفسي فمن الممكن أن يعيش أهل الفقيد عقدة ذنب، ويحمّلون أنفسهم ثقل موت الفقيد في هذا الزمن، من دون أن يتمكنوا من استغلال كل دقيقة معه أو من تقديم المساعدة له في مرحلة مرضه. وتبقى الصلاة السلاح الوحيد الذي يمكن أن يساعد اهل الفقيد على تقبل الواقع المرير. كما يجب ألاّ يشعروا بالتقصير بحق موتاهم، لانهم سيعوضون لهم عبر القيام بالقداديس على راحتهم مع تقبّل واجب العزاء وجهاً لوجه، بعد انتهاء فيروس كورونا”.