هناك عالم تغيّر ومنطقة تغيّرت. اذا لم تتمكن القيادة الفلسطينية من اخذ العلم بذلك والتعاطي مع هذا الواقع والتكيّف معه، يصبح الكلام عن مؤتمر دولي للسلام يطالب به الرئيس محمود عبّاس (أبو مازن) نوعا من المحاولات اليائسة لسدّ أوقات الفراغ… وما اكثر هذه الأوقات في هذه الايّام.
هل يمكن، اوّلا وأخيرا، الكلام عن مؤتمر دولي للسلام في غياب الولايات المتحدة؟ لنفترض ان مثل هذا المؤتمر انعقد، وهذا من رابع المستحيلات، من سينفذ قراراته يوما؟
ما الذي تستطيع فرنسا ان تفعله للفلسطينيين؟ لا تستطيع ان تفعل شيئا. الموضوع في يد إسرائيل والولايات المتحدة. تكمن المشكلة في انّ تأثير فرنسا على إسرائيل والولايات المتحدة صفر مكعّب. سيتمكن الرئيس ايمانويل ماكرون، الذي استقبل «أبو مازن» قبل ايّام، بالكاد ان ينقل الى الرئيس دونالد ترامب رسالة من ايران سلّمه إياها وسيط قابله يوم الثلاثاء الماضي. قد يستمع ترامب الى مضمون الرسالة، المتعلقة برغبة ايران في تفادي العقوبات الاميركية الجديدة… كما قد لا يستمع اليها. سيعتمد كلّ شيء على ما اذا كانت إدارة ترامب ترغب في الذهاب الى النهاية في مواجهة ايران ام تسعى الى صفقة ما معها انطلاقا من العراق.
يعيش الرئيس الاميركي في عالم آخر لا علاقة بالفلسطينيين ومأساتهم او بالنزاع العربي – الإسرائيلي او الفلسطيني – الإسرائيلي وحقوق الشعب الفلسطيني «غير القابلة للتصرّف» حسب تعبير احد قرارات الامم المتحدة. لن يؤثر على ترامب شخص مثل ايمانويل ماكرون لديه من الهموم الداخلية والأوروبية ما يكفيه، بل اكثر مما يُعتقد.
من اطرف ما يرد على لسان فلسطينيين يشغلون مواقع في السلطة الوطنية، من بينهم «أبو مازن»، ان الولايات المتحدة لم تعد وسيطا نزيها بين الفلسطينيين وإسرائيل. في الواقع، لم تكن الولايات المتحدة يوما وسيطا نزيها. كان ما تقوم به من مبادرات بالتنسيق المسبق مع إسرائيل، في معظم الأحيان، حتّى لا نقول في كلّها. لكنّ الجديد مع إدارة ترامب انّها قرّرت تجاوز القضيّة الفلسطينية من منطلق ان طرحها في المنتديات الدولية طال اكثر مما يجب. لا وجود لادراك لدى إدارة ترامب لواقع انّ هذه القضيّة قضيّة شعب ذي تاريخ معروف ومثبت موجود على الخريطة السياسية للشرق الاوسط وان من حقّه ان يكون موجودا على الخريطة الجغرافية ايضا. يمتلك الفلسطينيون هوية وطنية تجمع بينهم على الرغم من كلّ ما تعرّضوا له من خيبات وعلى الرغم من الانقسام العميق الذي جعل قطاع غزّة منفصلا كلّيا عن الضفة الغربية.
ليس المؤتمر الدولي سوى وهم لا يحق للقيادة الفلسطينية، في الظروف الراهنة، الدخول في متاهاته او التسويق له حتّى لو كانت في وضع الباحث عن مخرج ما من المأزق الذي وجدت نفسها فيه. الأكيد ان القيادة الفلسطينية لا تتحمّل وحدها مسؤولية هذا المأزق. هناك تطورات إقليمية وعربية ودولية ادّت الى الوضع الراهن. من بين هذه التطورات تراجع الاهتمام العربي بالفلسطينيين وقضيتهم، خصوصا بعد الزلزال العراقي في العام 2003 الذي جعل المشروع التوسّعي الايراني يلتقط أنفاسه ويتحوّل الى تحدّ وجودي لكل دولة عربية في المنطقة. اخذ هذا المشروع على عاتقه تهديد كلّ كيان عربي بعد وضع ايران يدها على العراق بتسهيلات أميركية. باتت كلّ المجتمعات العربية تشعر بتهديد في العمق، خصوصا بعدما تبيّن ان المشروع التوسّعي الايراني يعتمد على ميليشيات مذهبية. لا تعمل هذه الميليشيات في العراق فقط، بل هي في سوريا ولبنان واليمن وكادت ان تكون موجودة في البحرين أيضا.
من يدعو الى مؤتمر دولي في ظل الواقع القائم، انّما يمارس عملية هروب الى الامام من جهة ويبيع الفلسطينيين الوهم من جهة أخرى. لا حاجة بالطبع الى إعادة التذكير بأنّ فرنسا استطاعت في العام 1974 تأمين اوّل اختراق للديبلوماسية الفلسطينية عندما استقبل وزير خارجيتها جان سوفانيارغ في مقر إقامة السفير الفرنسي في العاصمة اللبنانية (قصر الصنوبر) ياسر عرفات. حصل اللقاء في اطار فطور دعا اليه سوفانيارغ بعيدا عن عيون الصحافيين والكاميرات. لكنّ هذا الاختراق، الذي غاب عنه الاعلام، مهّد لهدف محدد في حينه. يتمثل هذا الهدف في ذهاب «أبو عمّار « الى الامم المتحدة لالقاء خطاب امام الجمعية العمومية في مثل هذه الايّام من تلك السنة، أي قبل أربعة وأربعين عاما بالتمام والكمال.
كان في استطاعة الفلسطينيين البناء على ما تحقق طوال سنوات وصولا الى اتفاق أوسلو، ذي الثغرات الكثيرة، الذي تمّ التوصل اليه مع إسرائيل مباشرة. ما كان لاتفاق أوسلو ان تكون له أي قيمة لولا ان الولايات المتحدة اعتمدته واصرت على ان تكون راعية لحفلة التوقيع عليه وشاهدة على هذا التوقيع. أوصل اتفاق أوسلو الفلسطينيين، شئنا ام ابينا، الى البيت الأبيض ومكّن ياسر عرفات من ان يطأ ارض فلسطين وان يكون قبره في رام الله. هذا لا يعني انّه كان اتفاقا من دون شوائب، لكنّ عودة الى تلك المرحلة تؤكد انّه لم يكن امام الفلسطينيين من مخرج آخر في تلك المرحلة.
اذا كان من درس يمكن استنتاجه من كلّ تجارب المرحلة الطويلة من النضال السياسي والعسكري التي ارتكب الفلسطينيون خلالها أخطاء كبيرة، خصوصا في حق لبنان، فانّ هذا الدرس يختزل بكيفية التعاطي مع الولايات المتحدة على الرغم من كلّ ما تنطوي عليه سياستها من انحياز مكشوف ووقح الى إسرائيل والاحتلال الذي تمارسه.
لا شكّ ان اميركا في عهد ترامب قررت ان تكون اكثر انحيازا لإسرائيل وان تلغي خيار الدولتين من قاموسها السياسي. ولا شكّ أيضا انّ في إسرائيل حكومة متطرّفة هي في الواقع حكومة المستوطنين الذين يريدون تكريس الاحتلال للجزء الأكبر من الضفّة الغربية. لكنّ ذلك كلّه لا يعفي القيادة الفلسطينية من مسؤوليات عدة. في مقدّم هذه المسؤوليات إبقاء شعرة معاوية مع واشنطن، حتّى لو كانت واشنطن في غنى عن هذه الشعرة. ليس هناك من يريد القطيعة التامة بين الفلسطينيين وأميركا غير إسرائيل. يمكن الذهاب الى القول انّ ترامب ينفذ سياسة إسرائيلية. هذا صحيح مئة في المئة، لكن الرد لا يكون بتنفيذ ما تسعى اليه إسرائيل. ففلسطين ليست دولة عظمى ولم تعد القضية الاولى لدى العرب ودول العالم الثالث او الرابع او الخامس. في استطاعة «أبو مازن» على سبيل المثال إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني في انتظار غد افضل. عاجلا ام آجلا ستكتشف اميركا ان لا احد يستطيع الغاء الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية. تلك نقطة مهمّة لا يستطيع أي رئيس أميركي تجاهلها في المدى الطويل لكنّها لا تعني باي شكل انّ في استطاعة بيع الفلسطينيين الاوهام من نوع المؤتمر الدولي…