علَت الصرخة مدوِّية داخل المجتمع المسيحي الذي بات يعتبر أنّ «الحرب الاقتصادية التي تُشنّ عليه أصعب بكثير من الحروب السابقة»، ويسأل معظم المسيحيّين «كيف يمكننا البقاء في أرضنا بعدما فقدنا كلّ قدرة على الصمود؟»
تشهد الكنيسة مؤتمراتٍ متتالية تتمحور حول دور العائلة والتحديات التي تُواجهها، وتتحدث التوصيات عن التربية والتحديات السياسية من فراغٍ في سدّة الرئاسة الأولى، الى تهميش المواقع المسيحية، لكن من دون إيلاء الهمّ الإقتصادي المساحة الكافية كسبب أوّل لتفكّك الأسر وتأخّر الزواج عند الشباب المسيحي.
قد يكون الازدهار الاقتصادي الذي عاشته المناطق المسيحية، بادرة خير لقسم من المسيحيين، لكنّه أتى بالويلات على الشريحة الأكبر، وإذا كان معظم اللبنانين يعيشون ظروفاً إقتصادية صعبة، إلّا أنّ المسيحيين يعانون منها لأسباب جمّة، وهم يتطلعون الى بقية المناطق ويسألون عن سبب الغلاء الإستثنائي الفاحش في مناطقهم.
السؤال منطقي، إذ يشكو المسيحيون عموماً والموارنة خصوصاً معاناتهم هذه، التي تبدأ من أنهم «سكان جبَل» حيث الدولة غائبة، فالمناطق الجبلية خلت من أبنائها نظراً الى متطلبات الحياة العصرية.
الخطوة الاولى تبدأ مثلاً بترك أهل بشري بلداتهم والإنتقال الى الكورة، فيما يغادر ابناء إهدن مصيفهم ليقضوا الشتاء في زغرتا. ويترك أهالي تنورين والعاقورة بلداتهم ويقطنون في البترون أو جبيل. وبذلك يستملكون منزلاً جديداً ويدفعون مصاريفه من ماء وكهرباء وغيرها، إذ لا يمكنهم إقفال منزلهم الجبلي علماً أنّ المناطق المسيحية تدفع الضريبة بنسبة مئة في المئة.
من ثم تبدأ الرحلة الثانية، أي النزوح الى ضواحي بيروت الشرقية مثل بعبدا وساحل المتن وكسروان، وبذلك يدفع المسيحي مصاريف ثلاثة منازل.
يُقارن المسيحي الأسعار في مناطقه من أصغر المقتنيات الى أكبرها، إذ يبلغ مثلاً سعر منقوشة الزعتر في طرابلس 500 ليرة لبنانية، أما في الكورة أو زغرتا فتباع بـ2000 ليرة.
كل ثلاثة كيلوغرامات بندورة في سوق طرابلس أو الضاحية تباع بـ1000 ليرة لبنانية، بينما في البترون او كسروان والاشرفية يباع الكيلو بـ2500 ليرة. أما الهمّ الذي يقضّ مضاجع المسيحيين فهو السكن، إذ يبلغ إيجار الشقة في الضاحية الجنوبية، حيث الاكتظاظ السكني، 500 دولار كحدّ أقصى، بينما ييدأ في جونية من الف دولار وفي الاشرفية من 1200 دولار شهرياً و1500، إن وجدت.
وفي عرمون او بشامون، يبلغ سعر الشقة 100 الف دولار، أما في بعبدا والجوار والضواحي الشرقية فيبدأ من 300 ألف. إضافة الى الكلفة التعليمية العالية في المؤسسات المارونية والرهبانيات.
يترافق الهمّ المعيشي، الذي يسبب هجرة المسيحيين، مع إهمال تام من الأحزاب المسيحية التي ترفع شعارات رنانة وتتخاصم في ما بينها، وتتباهى برفض منطق المحاصصة التقليدية ما يُُبقي المسيحيين خارج وظائف الدولة.
فلو تأمّن للشاب المسيحي وظيفة لبقي في بلده لأنه لا يرغب بالهجرة، ولو إستطاع تأمين مسكن بسعر معقول لتزوّج، وبدلاً من تسجيل النقاط بعضهم على بعض، من الأفضل أن تسير الأحزاب على أساس خطة عمل، فهمّ إبن بشري القواتي ومعاناته، هي نفسها معاناة إبن جزين العوني وهمومه.
لا يكفي أن تطرح الكنيسة الهموم وتصدر التوصيات، إذ إنها تتحمّل جزءاً مهماً من حلّ أزمة السكن في المناطق المسيحية، خصوصاً البطريركية المارونية التي تملك مساحات شاسعة من الاراضي، فيما يقع العبء الاكبر على المتموّلين الموارنة وبعضٍ من الذين يبيعون أرضهم، قبل أن تجهد الرابطة المارونية لإسترجاعها بسعر خيالي مثلما حصل في الوروار أخيراً.
يعتمد بعض المسيحيين أسلوبَ الغش، ويروّج أنه سيبيع ارضه للغرباء بسعر كبير، لدفع الرابطة والمتموّلين إلى شرائها، علماً أنه لو صرفت هذه الأموال التي تستخدم لإسترجاع بعض الأراضي، على بناء مشاريع سكنية تباع بأسعار مقبولة، لما واجه المسيحيون أزمة سكن.
لذلك، فقد وعد عدد من المطارنة بحمل هذه الصرخة الى مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان المنعقد حالياً في بكركي، وبطرح ازمة السكن، حيث سيناقش المجتمعون هذه المشكلة، لإيجاد الحلول المعقولة. لكنّ البطريركية المارونية تواجه مشكلة عدم قدرتها على التصرف في الأرض، لأنّ الفاتيكان طلب منها عدم بيع أيّ قطعة، خوفاً من أن يبيعها المسيحيون للغرباء.
من الناحية الإقتصادية، يجيب الخبير الإقتصادي الدكتور ايلي يشوعي على تساؤلات المسيحيين عن أسباب الغلاء في مناطقهم، فيوضح لـ«الجمهورية» أنّ «غلاء السكن غير مرتبط بالاكتظاظ او بأعداد الناس، بل بتركّز الرأسمال مع أقليّة لبنانية، وإهمال الدولة بقية القطاعات الانتاجية، ما دفع الى الاستثمار في القطاع العقاري المربح فقط».
ويلفت يشوعي الى أنّ «القطاع الخاص هو مَن يضع السعر، فإذا دفع أحدهم سعراً معيناً، يصبح هذا سعر السوق، وبما أنّ رأس المال المسيحي لديه قدرة شرائية، ويشكل الأثرياء عند المسيحيين النسبة الأعلى، ويدفعون اكثر من رأس المال السنّي والشيعي والدرزي، لذلك شهدنا إرتفاعاً في الأسعار داخل المناطق المسيحية».
وبالنسبة الى غلاء المنتوجات، يشير يشوعي الى أنّ «10 في المئة من اللبنانيين الأثرياء يتنقلون في المناطق المسيحية، حيث الكيف والسهر اليومي، فنرى الوجوه نفسها في البترون أو فاريا أو جونية والأشرفية وساحل المتن، وهؤلاء يفرضون الأسعار، لذلك يكون الحلّ بفرض ضريبة عادلة لكي لا يزيد الغني غنى والفقير فقراً».
أما بالنسبة الى دور بكركي في دوزنة أسعار الشقق في المناطق المسيحية، فيرى يشوعي أنّ «السبب الجوهري للغلاء هو غياب الدولة وانتشار سياسة الفساد والجهل، وكما قال البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي: يجب استبدال الطبقة الحاكمة».
ويعيد يشوعي الى الاذهان تجربة «الصندوق الإجتماعي الماروني» حيث كان عضواً فيه، وأنشأ مشروعاً سكنياً يضمّ 1800 شقة في المنصورية وبعبدا عام 1997، وكان آنذاك سعر الشقة التي تبلغ مساحتها 120 متراً، 30 ألف دولار، وفي حينها اشترينا أراضي وبنينا هذه المشاريع بلا استعمال أراضي الاوقاف».
ماذا سيصدر عن مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وكيف سيتعاملون مع هذا الملف المصيري، بعدما شبع المسيحيون البيانات وباتوا ينتظرون الحلول، لأنّ الجميع عندها سيتحمّل مسؤولية إنهاء الوجود المسيحي في الشرق، وليس فقط مَن يهجم على القرى المسيحية ويقتلعها من اساسها.