لم يشهد لبنان في تاريخه الحديث، كل هذا التجييش والاستنفار من جانب السلطة التي جمعت قبل أيام قليلة مجلس دفاعها الأعلى، لتأمين انعقاد جلسة الثقة بحكومة الرئيس حسان دياب، حيث تحول وسط بيروت إلى ساحة حرب حقيقية، وجرت صدامات دامية غير مسبوقة، بين الثوار من جهة، والجيش والقوى الامنية من جهة ثانية، من أجل تأمين الطريق أمام النواب للوصول إلى البرلمان، لمنح الثقة لحكومة فقدت الثقة الشعبية منذ لحظة تأليفها، بمطالبة الثوار لها بالاستقالة، كونها لا تختلف عن سابقاتها بشيء، من حيث أنها جاءت عنواناً نافراً للتحاصص وتقاسم المغانم بين أطراف اللون الواحد. وهذا ما انعكس استياء داخلياً وخارجياً في آن، عبرت عنه بوضوح المواقف التي صدرت عن الثوار وأطراف المعارضة، ناهيك عن اعتراض عربي ودولي واضح على الطريقة التي تشكلت فيها الحكومة، وما كان لـ«حزب الله» من دور أساسي في ولادتها.
كم كان مشهد الأمس كئيباً ومحزناً إلى أقصى الحدود، في الوقت الذي كان الجيش والقوى الامنية أداة بيد السلطة لإيصال النواب الذين أسقط الثوار شرعيتهم إلى المجلس النيابي بهذه الطريقة الاستفزازية التي أساءت إلى مشاعر الكثير من اللبنانيين، في ما يمكن وصفه بأنه «تهريبة» موصوفة، يراد منها منح الحكومة الثقة بالقوة، من دون الأخذ بالاعتبار لمطالب الثوار الذين نزلوا إلى الساحات منذ ما يقارب الاربعة أشهر، في حين يتجاهل أهل الحكم وجع الناس المقهورة، بإصرارهم على عدم الاستجابة لهذه المطالب. وفي الوقت نفسه الضرب بعرض الحائط لنداءات المجتمع الدولي بضرورة العمل من أجل اتخاذ إجراءات إصلاحية، لإخراج لبنان من أزمته، في الوقت الذي لم يتخذ لبنان أي مبادرة حسن نية تجاه الدول العربية، وتحديداً الخليجية منها التي تنتظر منه الكثير لفتح صفحة جديدة، بعدما تحول منصة للتهجم عليها منذ سنوات، من دون أن يقوم بأي جهد مطلوب لوقف هذه الحملة التي يدفع ثمنها الان.
وإزاء هذا الواقع المؤلم الذي وصل إليه البلد، لم يكن مستغرباً ما قاله رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر في قداس عيد مار مارون، بحضور رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيسي مجلسي النواب والحكومة نبيه بري وحسان دياب، بما تضمنته من رسائل مدوية متعدد إلى أهل السلطة، بلغت ذروتها بدعوتهم إلى الاستقالة، إذا كانوا عاجزين عن إيجاد الحلول لمعاناة الناس. وهي مواقف لقيت تأييداً واسعاً من الثوار من أجل الاستجابة لمطالب الشعب المنتفض منذ ما يقارب الأربعة أشهر. وهذا يشير بوضوح إلى أن النقمة على الحكم تتسع، وأنه لا يمكن للسلطة بعد الان تجاهل مطالب اللبنانيين، لتحسين أوضاعهم المعيشية والتخفيف من معاناتهم.
وبالنظر إلى توقيت كلام المطران عبد الساتر، وبحضور كبار أركان الدولة، فإن الرجل أراد أن يوجه رسالة شديدة الوضوح، لرئيس الجمهورية ورئيسي مجلسي النواب والحكومة، أن مسار الأمور خاطئ وهناك مسؤولية أساسية تقع على عاتقكم في التصحيح، وبالتالي فإن استقالتكم تبدو منطقية في حال استمر هذا المسار ولم يصر إلى تقويمه، بعدما بلغ الاعوجاج حداً لا يمكن السكوت عنه. إذا كيف يعقل توقع إخراج البلد من أزماته، فيما هو يغرق أكثر فأكثر في الفساد والتبعية والارتهان لإرادة الخارج، حيث لا تغيير ولا إصلاح، بعد أكثر من ثلاث سنوات على «العهد القوي» في الحكم، وهو أمر بالغ الخطورة لا يمكن التكهن بنتائجه، في حال بقي الوضع على ما هو عليه من الانهيار على مختلف الأصعدة.
وتشدد أوساط نيابية، لـ«اللواء»، على أن أركان السلطة مطالبون بالاستماع إلى صوت الناس، لخطورة هذا المنحى الذي يسير به البلد، حتى وبعد منح الحكومة الثقة، بعدما بدا أن المسؤولين استقالوا من مسؤولياتهم الوطنية، ما يوجب البحث عن وسائل معالجة قادرة على الانقاذ، وليس باللجوء إلى الترقيع، كما هي الحال في كل ما كانت تتخذه الحكومات في العهود السابقة. ولا يظهر أن هذا العهد مختلف عن العهود السابقة، باعتبار أن العقلية السائدة القائمة على التحاصص والمحسوبية لا تتغير.
وتعرب مصادر روحية مسيحية، لـ«اللواء»، عن اعتقادها أن كلام المطران عبد الساتر، وضع الأصبع على الجرح، لناحية ضرورة تجاوب السلطة مع مطالب الثوار، لأن الأمور لم تعد تحتمل التأجيل، ولا بد من اتخاذ الإجراءات التي تكفل إخراج لبنان مما يتخبط به منذ أشهر، بعدما بلغت الأمور الخط الأحمر على مختلف المستويات، مشددة على أن أمام الحكومة الجديدة بعد نيلها الثقة، عملاً شاقاً من أجل تخفيف الحمل عن كاهل اللبنانيين، وإعادة الثقة العربية والدولية بلبنان، في وقت يحتاج إصلاح الوضع الاقتصادي والمالي، خطوات جريئة وإن كانت صعبة، لإبعاد شبح الانهيار عن البلد.