قبل الشروع في دراسة خطة الحكومة الاقتصادية المالية، فضّلتُ أن أكتب وأحدد أبرز الأمور التي يجب ان تتناولها أي خطة بهدف وضع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على الطريق الصحيح لوقف الانزلاق والتحضير لمرحلة انطلاق ونهوض جديدة.
وعليه، لا بد من التركيز على عدد من الامور الأساسية التي سبق أن طرحناها في الخطة الاقتصادية الاجتماعية التي أعدّتها جمعية الصناعيين، أبرزها:
1 – إصلاح مواقع الخلل في القطاع العام، الذي يجب ان يتضمن:
– وقف الفساد، منظومة صفر فساد.
– وقف التهريب في جميع المعابر الشرعية وغير الشرعية.
– معالجة أوضاع العاملين في القطاع العام لا سيما الذين أدخلوا مؤخراً، وكذلك معالجة الفوائض عبر إعادة توزيعهم على الادارات التي تعاني نقصاً في الكوادر البشرية.
2 – إطلاق محركات النمو وخلق فرص العمل، وضرورة تحفيز الاقتصاد، عبر:
– إطلاق سراح الطاقات الحالية.
– تعزيز القطاعات القائمة.
– تأسيس صناعات جديدة.
3 – معالجة الأوضاع المالية والنقدية.
4 – معالجة الاوضاع الاجتماعية.
لكن قبل كل شيء، يبدأ الحل بإجراء عملية تشخيص صحيحة لأزمتنا ومسبباتها، وفي مقدمها حقائق يعرفها الجميع ولم يرد أحد الاعتراف بها، حيث كنّا نصرف مما لا نملك ونستهلك مما لا ننتج ونزرع ونستدين مما ليس لنا، فكان الاقتصاد يعمل بوتيرة لا يمكن لها ان تُستدام، وعندما توقفَ تدفّق الأموال انكشف الوضع على نطاق واسع ومخيف.
صحيح انّ هناك فجوة مالية تم تقديرها بما لا يقل عن 80 مليار دولار، ولكن هذا لا يختصر كل المشكلة، بمعنى أوضَح انّ أي خطة اصلاحية لن تفي بالمطلوب إذا لم توقف مزاريب الهدر وتعيد الثقة بالسلطات الحكومية والمالية. كما لا يمكن التغاضي عن الوقائع والقيام بإجراءات تسدّ الفجوة لفترة مرحلية فقط، قطعاً للطريق امام إعادة تكرار المشكلة.
من هنا نرى انه من الضروري تحديد المشكلات التي تتمركز على مستوى السلطة وعلى المستوى الاقتصادي وعلى مستوى المستثمرين اللبنانيين والأجانب، وكذلك الامكانيات والقدرات التي نتمتع بها وتقييمها لمعرفة مدى فعاليتها في مجابهة الأزمة.
بالنسبة للمشاكل، فهي تتمثل بالآتي:
– فجوة مالية تم تقديرها لأول مرة بـ83 مليار دولار.
– هدر وسرقات.
– إستثمارات مصرفية وشهادات ودائع من المصارف لدى مصرف لبنان.
– وضع اجتماعي يهدد بالانفجار بسرعة: بطالة وفقر.
– قطاع عام منتفخ ولا يتناسب مع حجم لبنان الاقتصادي.
– قطاع خاص على شفير الهاوية لا بل في الهاوية بعد تعرّضه لأزمات متعددة واحدة تلو الأخرى.
– جمود اقتصادي وارتفاع الأسعار وانهيار الليرة.
أمّا مكامن القوة، فهي:
– شعب صبور وقادر لكنه فقد الثقة.
– موجودات وممتلكات الدولة.
– موجودات الذهب.
5 – ثروة غازية ونفطية واعدة.
– قطاع خاص حيوي وقادر لا سيما القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الصناعة.
– إنتشار لبناني مقتدر يتواصل وبِتفاعل مع بلده الأم.
بالنسبة للفجوة المالية، لا بد من الاشارة الى انّ هذه الفجوة هي بالحقيقة فجوتان:
فجوة أولى أتت بسبب خسائر او تبخّر موجودات مصرف لبنان نتيجة سياسات الحكومات عبر الموازنات ومدفوعات للكهرباء ودعم الليرة والهدر الحاصل على أكثر من مستوى.
فجوة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وقد تكشّفت بنتيجة تخفيض التصنيف الائتماني للبنان الذي هو بحد ذاته سبب اساسي لفقدان نسبة كبيرة من قيمة الأدوات المالية اللبنانية في الأسواق العالمية.
وفي إطار إجراء هذا التقييم، لا بد من التطرق الى عامل أساسي يفوق تأثيره كل العوامل الأخرى ويتمثّل بأزمة الثقة التي تعتبر أزمة شاملة، تتناول بشكل أساسي: الثقة بالسلطة السياسية، والثقة بالقرارات الاقتصادية.
فمهما كانت صوابية القرارات الاقتصادية لا يمكن ان تحظى بثقة الشعب والمستثمرين اذا لم تترافق مع الثقة بالسلطة السياسية المسؤولة عن تطبيق القرارات وتنفيذها، للتأكد من ان المشاكل لن تنشأ من جديد.
وفي هذا الاطار، من المفيد أخذ العِبر من القطاع الخاص. فالمؤسسات الخاصة تتعرض في سياق عملها الى تحديات كبرى، وليس بالضرورة ان تصل الى حد الافلاس والانهيار، فيما خلاصها يرتبط الى حد بعيد بثقة المستثمرين والدائنين بإدارتها وبقدرتها على استعادة نشاطها، لأن ذلك يشكل شرطاً أساسياً للموافقة على امدادها بأموال إضافية لإنقاذها، فالجميع يوافق في حال كانوا مقتنعين بصوابية أداء الإدارة المشرفة وخاصة اذا كانوا أصلاً من الدائنين والمستثمرين فلهم كل المصلحة بالحفاظ على أموالهم واستثماراتهم السابقة. والعكس أيضاً صحيح خصوصاً اذا كان وضع الشركة صعباً نتيجة هدر أموال وسرقات، وبالتأكيد لن يقدم احد على مساعدتها قبل ان إبعاد كل الضالعين وإقصائهم عن الشركة تماماً.
إذاً، ماذا يختلف هذا الوضع عن وضع القطاع العام؟! لأنّ موضوع الثقة يبقى أهم واكثر دقة نظراً لتعدد الفرقاء والمصالح والآراء.
لذلك، يبقى موضوع كسب الثقة أساسياً، لذلك المطلوب وبإلحاح معالجة موضوع الثقة بشكل جذري وعلى المدى الطويل، خصوصاً أن استعادة الثقة لا تأتي الّا باقتناع الشعب والجهات الدائنة بأنّ لبنان وُضِعَ على الطريق الصحيح، لذلك يتحتّم إجراء الاصلاحات المطلوبة للعوامل الجذرية التي سببت الانهيار لا سيما السرقة والهدر والتهريب وحجم الدولة.
ومع تأييدي المطلق لهذا الحل، لكن للأسف الواقع اللبناني بكل مكوناته من التركيبة الداخلية الى الوضع الجيوسياسي يمليان ربما حلاً براغماتياً يعتمد أقله على إجراءات كسب الثقة وتعزيزها في المسؤول أي ما يسمّى بـ confidence building.
إنطلاقاً من ذلك، يمكن القول انه هنا يقع التحدي الأكبر ولا يمكن مقاربة خطة الحكومة الا من هذا المنظار الشامل. فمهما بلغت قيمة الفجوة المالية المقدرة بنحو 83 مليار دولار، الا اننا لا نزال نتمتع بحد أدنى من الطاقات والقدرات التي يمكن ان تسمح لنا بمواجهة الأزمة وإعادة البلد الى طريق التعافي والنهوض.
ومع التأكيد على ضرورة ان يكون مشروع الحل متكاملاً لكي يعالج الأزمة بكافة جوانبها، وعليه لا بد من التذكير بأبرز المرتكزات التي يجب البناء عليها، وهي:
1 – اعلان منظومة حوكمة قوية وصولاً الى لبنان صفر فساد بدءاً من تاريخ محدد.
2 – اطلاق تصور انقاذي اجتماعي – اقتصادي متكامل.
3 – في سياق التسلسل المنطقي للحل لا بد من أن يتحمل كلّ من تَسبب بالأزمة قسطه من المسؤولية. ومن غير المقبول ان يتم تحميل المودعين مسؤولية أخطاء وجرائم غيرهم، من خلال إجراءات تطال الجميع من دون استثناء ومن دون محاسبة.
وفي هذا الاطار، لا بد من التوقف عند قضية المودعين الشائكة في لبنان خصوصاً انّ الايداعات تتوزّع على فئات عدة، هي: حسابات صغيرة، مدّخرات نهاية الخدمة لافراد ولصناديق، حسابات متوسطة تعود لأشخاص جهدوا مدى حياتهم وآمنوا بوطنهم، حسابات لمؤسسات خاصة عاملة في مختلف القطاعات، وحسابات كبيرة تعود لأجانب وضعوا ثقتهم بلبنان، حسابات كبيرة تعود للانتشار اللبناني، حسابات شائكة من المال العام تعود لنشاطات مشبوهة.
وإنطلاقاً من ذلك، هل يعقل ان يتم التعامل مع كل هذه الفئات على حد سواء؟
من هنا لا بد من التأكيد على انّ الحل الشامل يتطلب معالجة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والمالية، وبكل وضوح المطلوب وقف الانهيار والتأكد من عدم استمرار مسبباته.
إذاً، الى جانب معالجة الأوضاع المالية والنقدية وبعد اكتساب الثقة يمكن التقدم بالحلول الناجزة للمرحلة الحالية التي تتطلب خطة خروج من الأزمة، خطة تعمل على اطلاق عجلة الاقتصاد وإقرار إجراءات تحفيزية وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي.
فالمطلوب بإلحاح تخفيض حجم الدين نسبة الى الناتج المحلي، تحفيز الاقتصاد وإطلاق محركات النمو عبر دعم القطاعات الإنتاجية من خلال تقديم بعض التحفيزات لا سيما منها تخفيض الأكلاف. وفي الشأن النقدي، يمكن وضع برنامج يعتمد على مزيج من الإجراءات العادلة والشاملة من دون المس بأموال الناس.
بالتأكيد انّ كل ذلك ممكن عندما تستتب الثقة، حتى لو تتطلب الإجراءات تأمين السيولة على مدى قصير وضمن جدولة سداد المستحقات على مدى أطول.
وهنا نناشد الحكومة ان تباشر فوراً بإجراءات اكتساب الثقة، وان كانت تجربة مجابهة كورونا ناجحة نسبياً لكن بعض التجارب الأخيرة مثل التعيينات القضائية لا تندرج ابداً في السياق الصحيح وانّ الشعب اللبناني بأكمله متعطّش لهكذا إجراءات، بينما لاحظنا كيف ان الحكومة جابهت التعيينات المالية بعدما تجلّت فيها المحاصصة الى العلن.
ولا نشك باندفاعة عدد كبير من الوزراء، أقله ممّن نتعاون معهم، فهم يبدون كل كفاءة وعلينا كمجتمع ان نساعدهم في تنفيذ مهامهم.
اننا اليوم أمام حكومة توافقت شريحة كبيرة من اللبنانيين على إعطائها الفرصة، لذلك فإنّ الاشكالية اليوم لا تتمثل بوجود شكوك حول نية الحكومة بالقيام بما هو مطلوب منها، انما القضية تتعلق بمدى قدرتها على القيام بذلك.
إنه صراع بين إرادة الحكومة المعلنة ومعظم الشعب وبين الذين يريدون الإبقاء على الوضع القائم من فساد واهتراء ومحاصصة وزبائنية.
وعليه، فإنّ الحكومة تواجه مصيرين لا ثالث لهما، إمّا ان تدخل التاريخ من باب التأسيس للبنان جديد على قدر طموح اللبنانيين، وأمّا ان تفشل وتضيع الفرصة وتُدخل لبنان في اضطرابات لا يحمد عقباها.