IMLebanon

للتاريخ… جريمة القرن… اللبنانية

 

تحتاج إلى سنوات لبناء الثقة، ويمكن بثوانٍ أن تدمّرها. في لبنان، انهارت الثقة في النظام السياسي وتبعها الآن انهيار الثقة في النظام المالي والقطاع المصرفي. بدأت القصة سنة 1995 في بداية الحقبة الحريرية المالية، والتي راهنت على عملية السلام. اعتمدت نظرية الإستدانة مهما بلغ ثمنها، لأنّ الفورة بعد السلم ستمحو الدين. فشلت الرهانات. خلالها، استذاق الفريق الحاكم لعبة الفوائد. بدأ الإغرار باللبناني المقيم والمغترب بالفوائد المرتفعة، ممّا استجلب المليارات منه ومن بعض العرب. كان أكثر اللبنانيين، وبسبب ضعف الثقافة المالية يتوهّمون أنّ لبنان لم ولن يقع مالياً. هو أعجوبة. وعلى كلّ حالٍ، قال في نفسه: «ماذا يمكن أن يحصل؟ أنا أعرف مدير الفرع أو مدير البنك. الميسور كان يعرف صاحب البنك. أكيد سأعرف قبل غيري في حال نذير خطرٍ ما، وأسحب مالي من السلة الكبرى في المصارف».

الغريب والملفت أنّ مدراء وأصحاب البنوك، والذين يتوقّع منهم معرفة الحدّ الأدنى من علم إدارة المخاطر، وقعوا أيضاً فريسةً للطمع. فلم يستطيعوا مقاومة الإغراءات ووظّفوا الودائع في دين الدولة بحجم 200 في المئة من رأس مالهم. وما فاض بعد تمويل القطاع الخاصّ بـ55 مليار دولار أو شهادات إيداع، أودعوه في البنك المركزي، حتّى بلغت ودائعهم لديه حوالى 156 مليار دولار، منها 114 مليار دولار من ودائع الناس و42 مليار دولار تسهيلات من البنك المركزي نفسه. بفائدة 2 في المئة ليعودوا ويوظفوا أغلبها بـ 12 في المئة لديه أيضاً. خطوة غير مسبوقة أنّ بنكاً مركزياً يسلّف مصارف ثم يعود لإيداعها لديه بفارق فائدة 10 في المئة، تسجّل أرباحاً لهم وخسارة له. أغلب أصحاب المصارف كانوا مطمئنين الى أنّهم بنوا علاقة ثقة مع الحاكم وسيخطرهم عند أي خطر.

 

خلال تلك الفترة الزمنية، انتبه السياسيون الى هذه اللعبة، ودخلوا شركاء مضاربين فيها، يؤمّنون الحماية لها مقابل مليارات الدولارات يجنونها في لعبة الفوائد، ومن دون أن يستثمروا دولاراً واحداً. كان بعض السياسيين أصحاب مصارف يؤمّنون تسهيلات بالدولار بفائدة 6-7 في المئة لشركائهم الذين يحولونها الى ليرات ويودعونها بفوائد 35 – 40 في المئة، وعند الاستحقاق يسدّون القروض ويجنون الفارق حوالى 30- 32 في المئة صافٍ دون قرش واحد مخاطرة.

 

الطرف الرابع والمايسترو الأساسي في هذه اللعبة كان البنك المركزي. أيضاً أغرته مليارات الدولارات التي دخلت البلاد، حتّى أصبحت الودائع في فترة ما تساوي 400 في المئة من الناتج، وهي سابقة مميّزة في تاريخ الدول. هذه الودائع وكلّ النظام الريعي جعلا حاكم البنك المركزي حاكماً مضارباً مع بقية حكّام البلاد، يحمونه ويحميهم، يدلّلونه ويدلّلهم، حتّى أعمت اللعبة أبصارهم جميعاً. سلطة المركزي أوصلت طموحه إلى رئاسة الجمهورية، فوضع تحت جناحه أغلب السياسيين، كبارهم وصغارهم، 8 و14، وتحالَف مع المصارف وأصحاب المصالح. اشترى ذمم عدد غير قليل من الصحافيين والصحافة والخبراء المزيفين.

 

لم يتصوّر احد انّ لعبة الكراسي الموسيقية ستتوقف يوما ماً، اي دخول الودائع. عاشوا جميعهم على وهم ثقة مزيفة، وانّ الـPonzi sheme في لبنان ليس كغيره، وانه لن ينهار.

 

في 27 تموز 2009 كتبت مانشيت في الجريدة بعنوان «مسرحية جريمة الدين العام، 56 مليار دولار». بسذاجة، اعتقدت انّ البلد سيهتز في اليوم التالي، لما احتواه الموضوع من تفاصيل حول منفذي المسرحية وممثليها ومنتجيها ومخرجها. زرت بعض الزعامات في اليوم نفسه، لأكتشف انّهم كلهم من دون استثناء لم يقرأوا عن الجريمة، ولم تخبرهم كاتبتهم الصحافية عنها. هكذا زعماء لبنان، وكذلك مصارفه وشعبه. بدأ الجميع يتحسس منذ سنة ونصف، فقط لأنّهم استشعروا الخطر على ودائعهم او رأسمالهم، المواطن يُذلّ بـ200 دولار فيلعن المصارف واصحابها، والمصارف تنتظر ما يرسله المركزي يومياً، فتلعن ايضاً سوء ادارته، والسياسيون يتفرّجون بعد ان حوّل اكثرهم جزءاً من امواله الى الخارج. اما بطريرك المركزي، ما زال يبشّر بسلامة الودائع، وسعر الصرف، ومتانة القطاع المصرفي، وانّه لا يخالف القوانين. لذلك يقول لا اقتطاع من الودائع ولا تغيير في سعر الصرف، بينما يبارك ويسهّل عمل الصرّافين بسعر موازٍ، ويمنع خروج الاموال، ويغضّ النظر عن خسارة 30% من المال لمن يريد تحويله الى الخارج.

 

كتبنا مراراً انّ ما حصل في لبنان على مستوى دولة ومجتمع، مقيم ومغترب، لا سابقة له في تاريخ الامم والشعوب. لا سابقة ان يتمّ إغرار شعب بكامله بنظام ريعي لمدة 25 سنة وبفوائد منفوخة اصطناعياً، حتى اصبحت اقسى من الإدمان على المخدرات. هذا النظام المالي استدام بحماية نظام سياسي أفسد منه وفي نفس الفترة. اصبح النظامان المالي والسياسي كالحشرات المتوالدة، يتغذّى الواحد من الآخر، والعكس ايضاً. هما في حلف فولاذي لا ينكسر لأن ضعف أحد عنصريه يقضي على الآخر. بنفس المفهوم بين النظامين، استدامت ايضاً حصانة اطراف كل منهما. فالبنك المركزي والمصارف ايضاً في سيرورة واحدة، اذا عطس احدهما، اصيب الآخر بالانفلونزا، كذلك اطراف نظام المحاصصة السياسي. لم يعد احد من العارفين بخفايا الامور يصدّق خلافاتهم ولو حصلت. فأكثرية الاطراف السياسية غدت كحبات المسبحة تطقطق بعضها على بعض ولو تباعدت، لكنها تعرف انّ انقطاع الخيط يفرط السبحة كلها. هذان النظامان يرّوج لهما ويعطيهما وسائل الاعلام الخاصة او من يشترون ذمتهم الصحافية. لماذا هذه المقدمة الطويلة؟ لأنّ سرقة القرن لمجتمع بكامله مستمرة. اصحاب الودائع التي تمثل للبعض جنى عمرهم لا ينامون الليل، بينما من اهدر واساء امانتهم ينامون كالعصفور بين ايادي من يحميهم.

 

إليكم بعض الحقائق والوقائع:

– لم يسمع احد كيف تمّت عملية تحويل عجز 2019، علماً انّ الرقم المعلن حينها 11 الف مليار ليرة ازداد بنسبة كبيرة نتيجة تضاؤل موارد الدولة في الربع الاخير من السنة، بعض الخبراء يقدّر العجز النهائي لـ 2019 بحوالى 15 الف مليار ليرة. ما هو الرقم النهائي ومن غطّاه، لا نعلم. لكن الترجيح ان البنك المركزي قام بعمليات دفترية غطّى من خلالها المبالغ المطلوبة، اي زيادة المخاطرة على الليرة اللبنانية.

– غياب المرجعية القانونية لكل الاجراءات التي تُتخذ مؤخراً. فالمجلس النيابي اقرّ موازنة 2020 لحكومة مستقيلة وليست حتى تصريف اعمال، وتبناها رئيس حكومة دون استشارة وزرائه، من دون مراجعتها وبحث بنودها. حضر جلسة الإقرار دون صفة، لأنّه لم يحصل على ثقة المجلس. وزير ماليته صرّح في 2019 انّ هذه الموازنة لا تلبي الطموحات المطلوبة وارقامها غير واقعية. هذا قبل احداث تشرين الاول وما بعدها. اليوم نفس وزير المالية اصبح المسؤول الاول عن الموازنة التي عارضها سابقاً. لماذا؟ لأنّ قراره ليس بيده، كما انّ قرار إقرار الموازنة اللادستورية لم تكن بيد النواب الذين صوّتوا لها.

هذا في المبدأ، أما في تفاصيل الموازنة، فأرقامها ابعد ما تكون عن الواقعية. تتوقع حجم الواردات بحوالى 12 الف مليار ليرة، بينما الشعب اللبناني في غالبيته يتصرف وكأنّه يمارس العصيان المدني غير المعلن. اغلب المكلفين لا يدفعون رسوماً وضرائب، ان امكنوا، يتهرّبون من الـ TVA. ضريبة الدخل الفردية ستنخفض جذرياً نتيجة البطالة. وضريبة الدخل من الشركات ستهبط الى اكثر من النصف نتيجة اغلاق المصالح والمصانع وانخفاض القدرة الشرائية وعدم توفر الدولارات لاستيراد المواد الاولية. كذلك ستُضرب عائدات الجمارك والسوق الحرة والمرفأ والمطار والخليوي. ويقدّر البعض انّ عجز موازنة 2020 لن يقلّ عن 10 مليار دولار بالحد الادنى. من اين سيأتي تمويلها في ضوء استحالة اللجوء الى الاستدانة الخارجية بالدولار، او الداخلية بالليرة. لا تخافوا ولا تجزعوا المطبعة موجودة…

 

 

الحاجات التمويلية للدولة

نتيجة الانهيار الاقتصادي والقوة الشرائية سينخفض ايضاً الاستيراد بنسبة 40% على الاقل. لكن لبنان سيظل محتاجاً لاستيراد الحد الادنى من متطلبات الاستهلاك من غذاء ودواء وفيول وسيارات (ولو صغيرة) والبسة ومواد استهلاكية وقطع غيار وغيرها. وهذه لن تقل عن 14 مليار دولار. تاريخياً كان الاستيراد يُموّل من تحويلات اللبنانيين (وبعض الاجانب الذين غُرّر بهم ايضاً في نظام الفوائد)، ومن الاستثمارات المباشرة. اليوم وفي ضوء فقدان الثقة في النظام المصرفي، ستنخفض هذه التحويلات لتلبية الحاجات الحياتية الاساسية للاهل والاقارب فقط، واكثرها سيتم نقداً وليس عن طريق المصارف، ولن يكون هناك اية استثمارات مباشرة، اي سيكون العجز التجاري المقدّر 14 ملياراً (12 استيراد و2 تصدير) ممولاً من التحويلات (4 مليارات). فمن اين سيأتي تمويل الرصيد المتوقع لميزان المدفوعات (6 مليارات)؟ لا تخافوا ولا تجزعوا.. مطبعة المركزي موجودة.

– انظر الى الجدول، خلال سنة 2020 يستحق 590 مليون دولار شهادات ايداع بالدولار وفوائد مليار و100 مليون على رصيد شهادات الايداع. اي ما يقارب 1700 مليون دولار (مليار و70 مليوناً) ويستحق ايضا حوالى 2500 مليون دولار (ملياران ونصف) سندات يوروبوند، يُضاف اليها حوالى ملياري دولار فوائد على رصيد السندات المتبقية. اذن المطلوب من الدولة خلال العام الحالي حوالى (6 مليارات و200 مليون دولار).

الاخطر في هذا الموضوع ان البنك المركزي (ويتصرّف انه صاحب القرار، لا وزارة المالية) ينوي دفع اصل وفوائد السندات المستحقة للاجانب، وجدولتها للمصارف اللبنانية. هذا ان حصل يندرج في تفاصيل جريمة او سرقة القرن، حيث لا يُدفع لصاحب الودائع في لبنان ويُدفع للخارج. كل دولار يتمّ دفعه هكذا يكون استنزافاً اخيراً لما تبقى من حقوق للمودعين، او حرمان الشعب اللبناني من استيراد الاساسيات لعيشه من دواء وغذاء.

– في عملية حسابية للمبالغ التي ذكرت اعلاه، يكون لبنان بحاجة الى ما لا يقل عن 22 مليار و200 مليون دولار خلال سنة 2020، منها 12,2 مليار بالدولار و10 مليار بالليرة. من اين سيأتي بهذه المبالغ؟ هنا، عليكم ان تخافوا وتجزعوا لأنّ مطبعة المركزي تؤمن الليرات، ولكن غير معروف كيف ستؤمّن الدولارات.

هذه السيمفونية ادّت الى افلاس الخزينة والمالية والمركزي والمصارف وفقدان ودائع الناس.

اليست مفارقة انّ اكثر السياسيين، وممن يصنفون 8 و14 ومستقلين يسألون ويتساءلون عن الواقع الفعلي للمالية العامة ولوضعية البنك المركزي. لماذا؟

أليست مفارقة انّ فرقاء نظام المحاصصة لم يقتنعوا بعد انّهم لا يمكنهم اخفاء الحقيقة عن المجتمع الدولي، وبعضهم يعتقد انه سيكون شريكاً مضارباً لطرف دولي ما في الغاز والنفط.

 

– حجم الدين العام وفوائده:

بما انّ البنك المركزي اصبح في حالة سلبية ولم يعد «مقرض الملاذ الاخير» lender of last resort، لا يمكن بعد الآن الا واعتباره وحده حسابية مشتركة لا تتجزأ عن حساب الدولة.

 

في آخر ربع من سنة 2019 انخفضت عائدات الدولة جذرياً حتى ارتفع المبلغ الذي كانت تبحث عنه للتمويل من 11000 مليار ليرة الى ما لا يقل عن 15000 مليار ليرة. اي انّ عجز الدولة في سنة 2019 لم يقلّ عن 10 مليارات دولار. هذا الرقم يجعل الدين المعلن حوالى 94 مليار دولار. يضاف اليه مترتبات على الدولة لصالح الضمان الاجتماعي، بعد ان توقفت عن تسديد اشتراكاتها، بحوالى 3 مليارات دولار (تضاف الى اجبار الضمان بالاكتتاب منذ سنة 2000 بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية بحوالى 6 مليارات ونصف دولار بدل توزيع مخاطرها عالمياً). ثم هناك استحقاق مؤسسة الكهرباء وللمقاولين والاستشفاء والاستملاك، مجموع كل هذه المبالغ يجعل دين الدولة يقارب الـ 100 مليار دولار (لا يهمّ ملياراً بالزائد او ملياراً بالناقص، كما قال لي احد أعلى المراجع في الدولة).

 

بلغ خدمة الدين للدولة سنة 2019 حسب الموازنة 6,25 مليارات دولار، اما الكارثة هو انّ لا احد يحتسب دين البنك المركزي الذي هو جزء لا يتجزأ من الدولة، ولو تمتع بالاستقلالية. فحسب تقرير المركزي الصادر في 31/1/2020 بلغت ودائع المصارف لديه 114 مليار دولار، منها تقديرياً حوالى 67 ملياراً بالدولار، و47 مليار دولار بالليرة. لكن ولاجتناب ازدواجية القيد، يُحسم من هذه المبالغ ما يملكه المركزي من دين على الدولة المقدّر بحوالى 42 مليار دولار (5,7 مليارات دولار يوروبوند بالدولار، و 36,3 مليار دولار بالليرة). هذا التقرير مبني على اساس دين الدولة ثلثيه بالليرة، اي 66 مليار دولار بالليرة يحمل منها المركزي 55% اي 36,3 مليار دولار بالليرة، وثلثه بالدولار اي 33 ملياراً يحمل منه المركزي (5,7 مليار دولار). بالمحصلة يصبح دين المركزي مقدّراً بـ 72 مليار دولار.

 

وقع العديد في وهم انّه يجب عدم احتساب ديون المركزي بالليرة لأنّه قادر على الطبع كما يشاء. هذا صحيح، لو كان المركزي غير متعلق بشراسة بتثبيت سعر الصرف.

 

في اليابان، ودون تثبيت لسعر الصرف، يبلغ مجموع الدين على الناتج 240% أغلبه بالين الياباني، وضمن نظرية عدم احتساب الدين بالليرة، تصبح اليابان دولة غير مديونة. هذا وهم. نعم، تنخفض قيمة الدين بالليرة عند تقديمه بالدولار في حال انخفاض سعر الصرف الى حينها، يجب احتساب الدين بالليرة والدولار على الدولة وعلى المركزي في حساب واحد، وهذا ما يجعل الدين العام على لبنان حوالى 172 مليار دولار، منه 95 مليار دولار بالدولار (61 ملياراً على المركزي و43 ملياراً على الدولة) و77 ملياراً دولار بالليرة (منها 11 ملياراً بالليرة على المركزي و66 ملياراً بالليرة على الدولة) مما يدحض عدم خطورة الدين العام كون اغلبه بالليرة، بينما تبلغ قيمة الدين بالدولار حوالى 55% و45% بالليرة.

 

مجموع الفوائد المترتبة:

أمّا في حساب الفوائد، فلقد درجت العادة ان يتركز الانتباه على بند خدمة الدين في الموازنة الذي يعني دين الدولة والبالغ 6,25 مليارات دولار لسنة 2019، من المتوقع ان يكون الرقم الصحيح يوازي 7 مليارات دولار. لكن ما لا يحسبه أحد كونه خارج الموازنة هو ما يدفعه البنك المركزي من فوائد على ودائع المصارف او شهادات الايداع اضافة الى الخسائر التي يتكبدها من خلال إعطائه قروضاً ميسرة للمصارف بفائدة 2 % ثم يعودون لإيداعها بـ 12 % عنده. وممّا يفسّر انكشاف البنك المركزي بحوالى 67 مليار دولار هو تمويل ميزان المدفوعات ودعم القروض للشركات الصغيرة والمتوسطة وقطاع المعرفة والقطاع العقاري. كلّ هذا الدعم يسجّل أرباحاً عند المصارف وخسائر عند المركزي مدعومة من نظام الودائع الذي اعتبره البعض لا ينضب. كل هذه العمليات تجعل من الصعب تقدير قيمة الفوائد التي يدفعها المركزي على الودائع للمصارف لديه وعلى شهادات الايداع اضافة الى خسائره للدعم للقطاعات المذكورة. لكن لو احتسبنا تقريباً نسبة الفوائد على مجمل الودائع لديه 114 مليار دولار مع الخسائر على الدعم لاستنتجنا رقماً تقريبياً لا يقلّ عن 14 مليار دولار سنوياً. وهذا ما يفسّر ارتفاع بند ودائع المصارف سنوياً لدى المركزي …. تزداد فعلياً.

 

في المحصّلة، تبلغ فاتورة خدمة الدين العام المجمع للدولة والبنك المركزي ما لا يقل عن 21 مليار دولار سنويا، اكثرها يدوّر فيدفع ديون الدائنين على الدولة وديون المركزي لصالح المصارف.

 

حقيقة الـ 30 مليار دولار احتياط المركزي؟

لا يفوّت احد الخبراء المزيفين فرصة إلّا ويذكر انّ الوضع المالي والمصرفي بخير، وانّ لدى المركزي 30 مليار دولار احتياط. يجب التذكير دوماً بأنّ الاحتياط لدى جهة ما تعني ان لديها مبلغاً ما تملكه (لا يملكه طرف ثالث) تلجأ إليه في الطوارئ. هذا الاحتياط في المركزي ما هو إلّا ما تبقى من ودائع واحتياط إلزامي للمصارف تودعها لديه، وتغطية للسيولة النقدية الورقية المتداولة يومياً تبلغ الاحتياطات الالزامية للبنوك حوالى 18 مليار دولار، وتبلغ الكتلة النقدية المتداولة (mzero) 8,6 مليارات دولار بالليرة قبل وصول الشحنات الاخيرة. هذا يعني انّ ما تبقى من «احتياط» ليس ملك البنك المركزي للتصرّف له (وأصلاً لم تكن الاحتياطات لديه يوماً ما ملكه، بل ودائع الناس ورساميل البنوك).

 

الغريب انّ المركزي بات يتصرف بهاجس نفسي يحتاج الى تحليل طبي يتعلق بالهوس في اضفاء الجو الايجابي المزيف، وثبات سعر الصرف وصلابة «الاحتياط» لديه.

 

 

حقيقة ملاءة المصارف وضرورة زيادة رساميلها؟

لطالما تفاخرت البنوك اللبنانية بأنها تتمتع بنسب ملاءة مالية ومخاطرة من الافضل في العالم، وانها كانت ذا حصانة منعت تعرّضها لأزمات سنة 2008، وانّ الدين العام في لبنان لا يهدد متانة المالية كونه في مجمله داخلي.

 

إنّ لعبة النظام الريعي انتهت. فالملاءة المالية تكون فعلية عندما تكون الودائع مستثمرة في ادوات مالية قابلة للتسييل، لا ان تكون ودائع لدى البنك المركزي لسنوات قادمة لا يمكن تسييلها، وبعدها يكتشف انّ هذه السيولة لم تعد موجودة سوى كأرقام دفترية. كيف يمكن لبنك يدّعي انّ نسبة السيولة لديه 37 % وهي من الاعلى في العالم، بينما هذه السيولة موجودة في المركزي ولا شفافية توضِح كيف استعملت ولأية آجال. ولو كانت هذه السيولة موجودة لدى بعض المصارف لكانت متميزة عن غيرها وخدمت زبائنها. لقد بيّنت الازمة الخانقة، او بالأحرى الانهيار الاخير، انّ كل المصارف متساوية في ذوبان سيولتها وودائع زبائنها، وانّ المصرف المغامر او الكبير لا يختلف عن المصارف المحافظة او الصغيرة، وان اكثر ارباحها التي تمثّل السيولة، ما هي الّا دفترية لدى المركزي.

 

والأخطر، والذي يتجنّب الجميع التطرّق له، هو هشاشة الواقع الرأسمالي للمصارف. فلا احد يتطرق حتى الآن الى تأثر الرأسمال المجمع للمصارف من خلال انخفاض اسعار اليوروبوند بحوالى الثلثين. والمعروف انّ المصارف تملك 15,14 مليار دولار منها، اي ذوبان دفتري بحوالى 9 – 10 مليار دولار ولا احد يقيّم تأثر الرأسمال بانخفاض سعر الصرف الفعلي بحوالى 35 %، لأنّ المصارف ما زالت تعتمد الرقم الدفتري 1507 اضافة، وتزداد نسبة القروض المتعثرة لتصل الى اكثر من 25 % وهي قابلة للارتفاع في ظل الانهيار الاقتصادي القائم واختفاء السيولة وعدم قدوم اموال جديدة.

 

هذه الامور وغيرها، تدل الى انّ المصارف كما مالية الدولة، في ازمة عميقة لن تخرج منها الا بإعادة رسملتها وليس بزيادتها فقط. وهذا للأسف لن يحصل في ظل «الدولة الفاشلة» حالياً. الثقة هي اوّل شروط استقدام الرأسمال، والثقة انفقدت وتحتاج سنوات لإعادة بنائها. حسب تقديرات الخبراء، وللحفاظ على جزء من الودائع، يحتاج القطاع المصرفي الى ما لا يقل عن 30 مليار دولار، نسبة الى حجم الودائع. المشكلة التي سيواجهها المودعون، انّ اصحاب المصارف يتصرفون وسيتصرفون وكأنّ رأسمالهم الحالي له اولوية على الودائع وهذا قد يؤدي الى خسارة الاثنين معاً. اخيراً لا بد من الطلب الى المصارف الكف عن إشاعة جو ايجابي مزيّف بهدف استعادة الاموال النقدية في المنازل.

 

موضوع دفع استحقاقات اليوروبوند:

هناك جدل ولغط حول ما إذا كان من الأفضل للبنان ان يسدّ استحقاق 20 آذار 2020 وبعدها استحقاق نيسان وحزيران هذه السنة. اولاً، قرار السداد او عدمه يجب ان يكون للحكومة اللبنانية لا للبنك المركزي. بات الجميع يعلم انّ الاحتياط في المركزي يشحّ يومياً ولا احد يعلم ما تبقى فيه فعلاً، ولا احد من السياسيين يطالب بتقرير مكتوب وموثّق من «المركزي» عمّا يملكه.

 

يجب منع المركزي بالضغط على الحكومة، ويجب على الحكومة ان تعطي الاولوية للشعب اللبناني لا للمقرضين، لم يعد الّا حفنة قليلة من الدولارات، الشعب أولى بها لدوائه وغذائه وتنقلاته. لن يكون لبنان لا الاول ولا السبّاق في التخلف عن السداد، ويجب مساواة المستثمر الاجنبي بالمحلي، وعدم إعطاء الافضلية له. إنّ الحجة في انّ لبنان يفقد ثقة المجتمع الدولي في حال التخلف هي حجة باطلة، فالعشرات من الدول مرت بنفس التجربة وعادت الى الاسواق المالية للاقتراض مجدداً. الارجنتين تخلّفت منذ شهرين فقط، وللمرة الثامنة عن السداد، ولم تخرب الدنيا. فنزويلا عاندت واستمرت بالدفع حتى استنفدت كل احتياطها، مما أدى الى عدم الدفع على كل ديونها، لماذا يصرّ المركزي على سيناريو فنزويلا، لا الارجنتين؟

 

على الحكومة الحالية ان تعرف انها ستكون هي المسؤولة امام الشعب اللبناني في حال انصاعت لرغبة المركزي، وستحاسب على تعطيل المستثمرين على الامن الاجتماعي للمواطنين وحاجاتهم. كيف لدولة ان تدفع للمستثمرين الاجانب، الذي يمثل استثمارهم نسبة ضئيلة من محفظتهم، بينما يُذلّ المواطن يومياً في المصارف ليحصل على 100 او 200 دولار؟

 

وللمعلومة، لا يهوّل أحد، ويخرج جهابذه الصحافيين الذين باعوا ضمائرهم، ولا الخبراء المزيفين، انّ الاصول اللبنانية ستصادر في الخارج من طائرات واراض وذهب… فالطائرات ملك شركة خاصة اسمها MEA، يملكها البنك المركزي الذي يعتبر هيئة ذات صفة قانونية لا علاقة لها بالدولة، كما باقي الدول. لذلك بعض الدول تعترض بصفتها والبعض الآخر بصفة المركزي. كما انّ الذهب ملك المركزي لا يحق لأحد احتجازه. وإذا سلّمنا جدلاً اّن هذا المنطق غير صحيح، فلتقم الدولة ببيع الذهب الصالح المقرض الاول في لبنان، وهم المودعون. أليس هم ايضاً اصحاب حقوق لدى المركزي حيث توجد اكثر ودائعهم التي لا يعرف احد مصيرها؟

 

خطة الحلول: لا مخرج بدون دولارات جديدة

خطة مارشال لإعادة بناء الاقتصاد وخزينة الدولة استمرار النظام الريعي لمدة 27 سنة، وقبله كانت هناك حرب اهلية بشعة دمّرت اكثر ركائز القطاعات الانتاجية في لبنان. وبالاشارة الى المقطع السابق حول رسملة المصارف، واجواء الثقة المطلوبة لذلك، ينطبق نفس المبدأ على اعادة تأهيل القطاعات الاقتصادية الانتاجية من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات وتجارة. هذا يتطلب رأسمالاً وتسهيلات مصرفية. وبدون اعادة رسملة المصارف لن يعود إحياء الانتاج في لبنان، وبدون تسهيلات مصرفية لن يستطيع مستثمرها ضَخ رأسمال كامل، وبدون اعادة الانتاج بشكل جدي وخلق فرص عمل وقدرة شرائية فعلية، لا رواتب دفترية، لن تستطيع الدولة تحصيل واردات من جمارك وضريبة قيمة مضافة وضريبة دخل وضرائب أرباح شركات ورسوم وغيرها…

 

أصبح لبنان بحاجة الى خطة مارشال متكاملة للوقوف على رجليه مجدداً وليكون قادراً ان يتنافس في محيطه. الخطوط العريضة لهكذا خطة لن تكون تقليدية، فاليوم كما العادة استفاقت الحكومة الجديدة كما سابقاتها بالضغط لتخفيض الفوائد لتشجيع الاستثمار وما الى هناك من نظريات تقليدية. كالعادة يعتمدون إجراء ما، ولو كان صحيحاً، ولكنه يكون متأخراً.

 

حتى تصفير الفوائد اليوم لم يعد يجدي كون كل الفوائد الدائنة والمدينة دفترية. ما يحتاج لبنان اليوم هو ضخ سيولة كبيرة في نظامه، بدءاً برسملة المصارف مروراً بتمويل ورسملة القطاعات الانتاجية. والمطلوب مبالغ ليست يسيرة. فكما قلنا تحتاج المصارف حوالى 30 مليار دولار (قد يكون جزء صغير منها) تحويل الودائع الى اسهم، كما يحتاج لبنان الى عشرات المليارات من الدولارات، لا يمكن تقديرها عند كتابة هذا المقال، لرسملة قطاعاته الاقتصادية. تترافق هذه الخطوات لو تمّت مع اعادة هيكلية الدين لتقليص حجمه وخدمته والتخلّص من نظام الفوائد الريعي، ممّا يعيد حجم الدين متوازياً مع حجم الاقتصاد.

 

فقط وعندها فقط، يمكن الحديث عن موازنة متوازنة والبحث في التخصيص او الشراكة مع القطاع الخاص. أبسط مقومات التخصيص هي الثقة ثم الثقة ثم الثقة، يليها وجود نظام القانون الغائب حالياً اضافة الى جهاز قضائي فعّال لا يرتبط بالسياسيين. بالخلاصة تحتاج الخصخصة، كما إعادة الرسملة المصرفية والاقتصادية، الى دولة مدنية حضارية قادرة وعادلة. كل هذه الاوصاف معدومة في لبنان، حيث تديره دولة فاشلة بكل معنى الكلمة.

 

الفساد والنفاق في التعاطي مع الداخل والمجتمع الدولي

– الفريق السياسي الذي حكم لبنان منذ انتهاء الحرب اللبنانية حتى اليوم، والذي كما ذكرنا، هو في حِلف فولاذي مع رجال المال والمصالح، لا يزال متمسّكاً بالسلطة غير آبه بما أوصل اليه البلاد. ما زال نفس الفريق يجتمع ويبتسم، وكأن لا مواطنين يبكون جَنى العمر وضياع المستقبل. ليس هناك أيّ وصف لغوي لهؤلاء. هم يعتقدون انهم خالدون كما صدّق فرعون وصدام والقذافي وزين العابدين بن علي وعيدي امين وغيرهم من جبابرة الانسانية.

 

نقول لهم لن يأتي حال بعد الآن بوجودكم، وتمسّككم بالسلطة سيقضي على ما تبقى من امكانية لإنقاذ الفقراء الذين تسببتم بمأساتهم. البعض منكم، وبعد ان كان يرفض مبدأ التواصل مع الهيئات والصناديق الدولية، سيستجديهم قريباً. وغير معروف اذا كانوا سيلبّون ام لا، ولكنهم لو لبّوا فسيكون لأهداف لهم وليست لكم. من المحزن انّ هناك فريقاً كبيراً من اللبنانيين بات لا يشجع أن تأتينا مساعدات او قروض وهبات جديدة من الخارج حتى لا يكون مصيرها كمصير باريس 1 و2 و3.

 

أيّ شخص في الداخل او المجتمع الدولي ما عاد يعرف أسماء الزعامات والاحزاب والشخصيات الفاسدة في لبنان؟ من لا يعرف انّ في لبنان دولة فاشلة يديرها سياسيون يتحاصصون مجلس القضاء الاعلى والمدعي العام التمييزي والمدعي العام المالي والمدعين العامين والقضاء العسكري والتفتيش القضائي والمراكز الامنية من جيش وأمن دولة وامن عام وامن داخلي، وهيئات الرقابة من ديوان محاسبة وتفتيش مركزي ومجلس خدمة مدنية ومجالس انماء واعمار وجنوب ومهجّرين وكازينو وريجي وضمان اجتماعي وكهرباء ومياه ومطار ومرفأ ونفط وغاز، وهيئات ناظمة ووكالات إعلامية وصحافة وجامعات ونقابات وبلديات. من لا يعرف ان لا أحد بعد الآن سيمدّ يده لهذا النظام التحاصصي الفاسد، وانّ أي خطة لإعادة الثقة في لبنان وبناء الدولة المدنية الحديثة لن تتمّ إلّا بعد التخلص من نظام المحاصصة والدولة الفاشلة والقائمين عليها. المجتمع الدولي والهيئات والمنظمات الدولية باتت تعرف كل الحقائق عن لبنان وما يحصل فيه.

 

يجب التذكير انّ كل المبالغ التي رصدت في صفقة القرن لإغراء كل الدول بالموافقة عليها كانت 50 مليار دولار، منها للبنان 6 مليارات فقط. فإذا كان الاغرار لهدف كهذا بهذه الضآلة، فمن أين ولماذا سيعطى لبنان حوالى 40 مليار دولار يحتاج لها للنهوض اضافة الى الحاجة السنوية بحدود 22 مليار دولار، منها 14 مليار دولار جديد و8 تدوير أرقام استحقاق وفوائد.

 

الحراك المدني:

لذلك، يجب على حراك الانتفاضة – الثورة ألّا يتوقف. ولكن ضمن قيادة وبرنامج عمل وتوحيد مطالب تبدأ أوّلاً، وفي المرحلة الحالية، بأن تركّز على استعادة الودائع والاموال المهرّبة والاموال المنهوبة. وفي حال فشل الجهود في الداخل، وعلى الأرجح ستفشل، يصبح لزاماً على قيادة هذا الحراك اللجوء الى كل السبل القانونية المتاحة دولياً لتحقيق هذا الهدف.