IMLebanon

عن «الثقة» المضمونة.. و«اللاثقة» المـؤكّـدة!

 

تنكّرٌ لـلأزمات وتـغييبٌ للـحلـول وعـداوةٌ مع العـالـم

 

 

أغلبُ الظن أن حكومة الرئيس حسان دياب ستخرج من البرلمان بأكثرية نيابية تصوّت لمصلحتها. تحديداً الفريق الذي سمّى دياب، والفريق الذي يمتلك وديعة ضمن حكومته ويتظاهر بمعارضتها، وأولئك الذين نسجوا تفاهمات تحت الطاولة لتمرير المرحلة، هكذا «كلن يعني كلن» سيمنحون الثقة مع أقلية بسيطة ستعارض بصدق، في مقابل تصويتٍ بليغ، ويومي، وصارخ من الشعب الذي منحَ منذ الاستشارات النيابية، فالتسمية، فخروج تشكيلة المستشارين «لا ثقة» كبيرة ومدوّية.

 

اللغة الببغائية

 

لماذا تُمنحُ الثقة أصلاً لهذه الحكومة؟ السؤال، على بداهته، له ما يفرضه. الحكومةُ الفاعلةُ والمستقلةُ ضرورية لأن لبنان يعاني من تراكم أزمات قاتلة، ويواجهُ وضعاً صعباً للغاية في الاقتصاد والمال وقضايا الأمن الاجتماعي كافة، وكذلك في علاقاته مع الأسرة الدولية. دَع عنكَ مشهدَ جبران باسيل يتسوق في سويسرا يتبعه رجل أمن يُقال إنه برتبة ضابط يحمل له أمتعته.. فهذا المشهدُ المهينُ لا يعكسُ حقيقةَ ما يعيشه البلد (لكنه يحتاج فقط هادلي غامبل لتضبطه متلبساً، وتقرّعه وتساءله باسم الشعب اللبناني، كيف ومن أين لك هذا؟). الوضعُ خطرٌ ومفتوح على الاحتمالات السلبية كافة، والحكومة التي نحن بصددها لا توحي بشيء من الجدّة أو الثقة أو المصداقية.

 

فبعد جدار العزل، والرصاص المطاطي والاعتقالات والتوقيفات ودعس الحريات، والإذلال على أبواب المصارف، والارتفاع الجنوني والحاقد الذي يقارب الجريمة الموصوفة في أسعار السلع الحياتية والمحروقات مترافقاً مع تعميم شائعات مشبوهة عن مجاعة آتية.. إزاء كل هذا الانهيار والتفكّك والتفسّخ، يكرر المسؤولون بشكل ببغائي، ساذج، ومستفزّ، بأن «الآتي أعظم»، والأنكى قول البعض – بلا خجل – إن على الشعب تحمل الأيام الصعبة المقبلة. وكأن أدوار هؤلاء المسؤولين محصورة بالتبشير بالخراب (وهم مسببوه)، أو زيادة المأساة أو تغطية المخربين، وليسوا في موقع القرار! وكأن مسؤولية الشعب دفع الثمن مرتين؛ مرة بالسكوت عن الفساد والسرقات ونهب المال العام، ومرة أخرى بتجرّع نتائج سياسات المحاصصة وتحمّل نتائجها، وليس من تسببوا بكل ذلك من طبقة الفاسدين، الذين بدورهم يكونوا قد ربحوا مرتين؛ مرة بالنهب ومرة أخرى بالنفاذ من المحاسبة!

 

هكذا يتحصل أن قرار السلطة هو المضيّ بتحدي إرادة الشعب، وعدم التنازل، وقطعاً عدم الذهاب نحو الإصلاح ووقف الفساد فضلاً عما هو أكبر من مطالب الانتفاضة كالانتخابات المبكرة وملاحقة الأموال المنهوبة، وعلامة كل ذلك أمران: الكلام عن ضررة تحمّل الوضع السيئ، والمضي بالخيار الأمني في التعامل مع صرخة الشعب. تفترضُ هذه السلطة أنها بموقفها هذا تشتري وقتاً للهروب إلى الأمام، بل وأكثر من ذلك تعتقدُ أن كلاماً مكرراً، وبياناً إنشائياً، وقلباً للحقائق سيمرّ على المجتمع الدولي والعالم العربي، وسيمنحها صكّ براءة من تهم الانحياز والمحاصصة والفساد أو عودة للمساعدات.

 

وللخارج ملاحظاته أيضاً

 

عدم الثقة، بالسلطة وبالحكومة التي انبثقت عنها، لا ينحصرُ في الداخل اللبناني، الخارجُ أيضاً يشاطر غالبية الشعب اللبناني موقفه هذا ولو على تفاوتٍ في الأبعاد والغايات والأهداف، فالولايات المتحدة الأميركية مهتمة بإنجاز مسألة الحدود البحرية ومن دون شك تتطلع إلى موقف لبناني ايجابي من «صفقة القرن» مع إبقاء سيف العقوبات مسلطاً على المتورطين بالفساد عبر استغلال السلطة، والاتحاد الأوروبي يكرر الموقف بأن تنفيذ شروط الجهات المانحة في مؤتمر «سيدر» مدخل أساسي لتقديم القروض الميسرة التي تمّ الالتزام بها والتي تقارب الـ11 مليار دولار، وهناك فوق ذلك عدم ارتياح عربي، خليجي تحديداً، لحكومة اللون الواحد، واستياء سعودي من بيع الكلام المكرر حول «النأي بالنفس» والاستراتيجية الدفاعية الموعودة، ومن نشاط «حزب الله» السلبي في أكثر من بقعة تتصل بأمنها واستقرارها، فضلاً عن استهداف دورها التاريخي ووقوفها إلى جانب لبنان. وكل المواقف السابقة تتقاطع حول قاسم مشترك هو الإصلاح ومحاربة الفساد، وهو ما تعجز عنه السلطة الحاكمة لتورط أركانها فيه، وهو أيضاً ما كانت أكدت عليه مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان» التي حثّت الحكومة على اعتماد «التدابير والإصلاحات الجذرية وذات المصداقية والشاملة القادرة على تلبية طلبات الشعب اللبناني»، رابطة بشكل واضح بين «المساعدات» وبين «الإصلاحات ومكافحة الفساد والتهرب الضريبي»، من دون أن تغفل الإشارة إلى «استقرار لبنان وأمنه وسلامة أراضيه وسيادته واستقلاله السياسي وفقاً لقرارات مجلس الأمن 1701 (2006)، 1680 (2006)، 1559 (2004)، 2433 (2018)، 2485 (2019)»، وما يعنيه كل ذلك من إشارات تتصل بربط الأزمة في لبنان بمسألتي السلاح والفساد.

 

كلامُ المطران مطرانُ الكلام

 

تحصيل حاصلٍ القولُ بأن السلطة الراعية لهذه الحكومة اختارت العصا الأمنية الغليظة للتعامل مع الانتفاضة ووجع الناس، لا الاصلاح ولا الحوار. وأنها اختارت المحاصصة، بشكل أكثر تحديداً، اختارت استمرار نهج الفساد والنهب والسمسرة وتغطية السارقين ومحتجزي أموال المودعين بديلاً عن الاصلاح والتزام محاربة الفساد. وأنها اختارت الخصومة مع العرب والعالم بديلاً عن الشراكة مع الأسرة الدولية في مواجهة التحديات وتحقيق المصالح.. هذه السلطة استنفرت أجهزتها الأمنية والإعلامية والسياسية لفرض جلسة الثقة وتفترضُ أنها بذلك تربح معركتها.

 

لا شيءَ أبلغُ من كلمةِ الحقّ التي صدحَ بها مطران بيروت للموارنة بولس عبد الساتر في العظة الذهبية في قداس عيد مار مارون، واضعاً الإصبع على الجرح، إذ تحدث عن مواصفات الزعيم، صرخة الناس، الإصلاح وإلا فالاستقالة، منبهاً من حضروا أمامه بأن يهتموا بما سيقال عنهم بعد الرحيل. كانت عظته بمثابة صوت الشعب والحق والشجاعة. لأزمنةٍ سيذكرُ التاريخ قوله للحاضرين أمامه من كبار المسؤولين «ألا يستحق اللبنانيون الذين وثِقوا بكم وانتخبوكم في 2018 ان تُصلحوا الخلل بالأداء السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي وان تعملوا ليل نهار، مع الثوار الحقيقيين، على إيجاد ما يؤمِّن لكلِّ مواطنٍ عيشةً كريمةً؟ وإلا فالاستقالةُ أشرَفُ».. لن يفعلوا شيئاً، لكن التاريخ سيسجّل ومن كانت له أذنان فليسمع.