الصراع على سوريا قديم العهد. من سوريا، انطلقت الحركة العربية في السنوات الأخيرة من السلطنة العثمانية. وخلال الحرب العالمية الأولى كانت دمشق قبلة العرب والأتراك لا سيما بعد إعلان الشريف حسين الثورة على العثمانيين في 1916.
اتفاقية سايكس – بيكو وضعت سوريا (ولبنان) ضمن دائرة النفوذ الفرنسي، مثلما كانت مناطق أخرى في دائرة النفوذ البريطاني. احتدم الصراع في مرحلة ما بعد الاستقلال مع بروز تيار عروبي شعبي جارف بقيادة جمال عبد الناصر، وسرعان ما قامت الوحدة بين مصر وسوريا في 1958 بطلب من حزب البعث. وكان «الصراع على سوريا» في أوجه، داخل البلاد وخارجها، كما أشار الكاتب البريطاني باتريك سيل في كتاب حول تلك المرحلة.
وقبل البعث، نشأت قومية استمدت جذورها من «سوريا الكبرى»، أطلقها أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. «العيش المشترك» بين القوميتين، السورية والعربية، لم يدم طويلا، إلى أن حُسم لمصلحة التيار العروبي في الخمسينيات. كما أن سوريا كانت الأكثر التصاقا بالقضية الفلسطينية بوجه الحركة الصهيونية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتكرس هذا الأمر في مؤتمر بلودان في 1946 تحديدا. ومن سوريا كان الصراع على فلسطين وعروبتها، وبموازاته صراع على سوريا من الداخل العربي.
الطموحات السورية، قبل نشوء الدولة وبعدها، لم تتطابق دائما مع الإمكانات المتاحة لأصحابها. فكانت الانتكاسة الأولى للحركة العربية في الحقبة الهاشمية في معركة ميسلون في 1920 بمواجهة الانتداب الفرنسي. انتكاسة أخرى سُجلت بعد سقوط الوحدة في 1961 وتفاقم الشرخ بين البعث والناصرية. وجاءت هزيمة 1967 على يد الجيل الذي انتفض على «جيل الهزيمة» بعد حرب فلسطين في 1948، لتُراكِم صراعات «النكبة» و «النكسة».
أما داخل سوريا فأخذ الصراع مداه منذ 1963 في زمن الراديكالية وسيطرة الجناح العسكري في حزب البعث الحاكم في سوريا والعراق. وكان الانقسام الداخلي جليا مع تدخل سوريا العسكري إلى جانب المنظمات الفلسطينية في الأردن في 1970.
في مرحلة حكم الرئيس حافظ الأسد، لم تعد سوريا ساحة مفتوحة للصراعات. وجاءت حرب 1973 لتعطي الحكم شرعية وتأييدا، وإن بقي جمر المعارضة الإسلامية تحت الرماد. هكذا شهدت سوريا استقرارا غير معهود لعقود ثلاثة.
في حروب الساحة اللبنانية كان الدور السوري محوريا، دعما ومعارضة لقوى محلية وإقليمية متشابكة، إلى أن اصبحت دمشق الطرف الأكثر نفوذا وقدرة على الإمساك «بأوراق» الأزمة اللبنانية. وجاء الحسم مع اتفاق الطائف ودخول الجيش السوري المناطق اللبنانية كافة بغطاء إقليمي ودولي. ومع تبدّل موازين القوى الإقليمية بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003، صدر قرار مجلس الأمن 1559 الداعي إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان.
استعاد الصراع على سوريا زخمه في 2011، بعدما حطّ رحال «الربيع العربي» فيها، في محطة أخيرة بعد تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، فاهتزت ركائز الدولة والنظام. صراعات متداخلة، بدأت بالمحلي بين النظام والمعارضة لتصل إلى الإقليمي والدولي، أعادت عقارب الساعة إلى الوراء، إلى سوريا ما قبل التاريخ الحديث. هكذا تحولت سوريا أرض نزاع لأهلها وللوافدين، القديم منهم والجديد.
إيران، حليفة النظام منذ الثمانينيات ومعها «حزب الله»، استعادت دورها المؤثر دعما للنظام. وفي المقلب الآخر، دول عربية، لا سيما السعودية وقطر، دعمت الأطراف المعارضة، إضافة إلى الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا، أبرز المراهنين على سقوط سريع للنظام.
وكما في أي نزاع متعدد الأطراف والأهداف، جرت الرياح بما لا تشتهي سفن المتنازعين. فكان التدخل الروسي العسكري مدويا لأسباب تخص موسكو وأخرى مرتبطة بالأوضاع السورية. وسرعان ما تحولت البلاد «أرض جهاد لمقاتلة الكفار»، أهل الدار قبل الجار. وانفتحت الشهية التركية، لا سيما في الشمال السوري وعاصمته حلب. رهانات بالجملة للرئيس التركي اردوغان على سوريا، بوابة «العثمانية الجديدة» إلى العالم العربي بمعية الإخوان المسلمين. واستعاد الأكراد مواقعهم ومطالبهم المزمنة بعد عقود من التهميش والاستهداف.
هكذا استمر الصراع من الداخل والخارج وباتت الساحة السورية مقاصة لصراعات تتجاوز البلاد وأهلها، لا بل مسألة دولية تشبه في بعض جوانبها «المسألة الشرقية»، لكن في نظام عالمي مختلف وواقع إقليمي مفكك.
معضلة سوريا، الجغرافيا والتاريخ، تتجدد ومعها الصراعات في الاتجاهات كافة في زمن تصفية حسابات الماضي والحاضر والتطرف الديني غير المسبوق. وللنزاعات المسلحة مآسٍ وضحايا، فالناس وقودها في أي مكان متاح.
إنه الصراع على سوريا في زمن الدول لا الإمبراطوريات، حيث للنزاعات ولحلولها شروط معقدة، ويصحّ فيها قول المتنبي: مصائب قوم عند قوم فوائد. قطار الصراع يتابع سيره على السكة أو خارجها. «ومن يصبر إلى المنتهى» قد يخلص في أحسن الأحوال، أو يُنهك أو يهلك في أسوإها.