IMLebanon

مواجهة «داعش» تقتضي وحدة اللبنانيين

خلال عملي القضائي تسنّى لي التحقيق في الكثير من الملفات المتعلقة بأعمال إرهابية طاولت اللبنانيين من غير منطقة، مما دفعني مراراً، وفي متن القرارات الاتهامية الصادرة عني، إلى التحذير، تلميحاً وتصريحاً، من رياح الهجمة التكفيرية الآتية صوبنا على متن مخططات تفتيتية، ومن مغبّة الانكشاف أمنياً أمامها، وذلك إيماناً مني بوجوب التنبيه إليها، قبل تفاقم الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.

غير أن بعض السياسيين، وعلى الرغم من معرفتهم بالحقيقة القضائية المجرّدة من أي هوى، كانوا يطلقون تصريحات مخالفة لما توصّلت إليه التحقيقات القضائية المبنية على اعترافات ساطعة وملموسة، ويتغاضون عن ملاقاة هذه القرارات وما فيها من مؤشرات ودلالات، إلى حيث تفترض غيرتهم الوطنية، وذلك درءاً للفتنة، وحفظاً للوطن وأهله ومؤسساته، والوطن لا يساوي شيئاً ما لم يكن فيه شعب ومؤسسات.

وأثبتت الأيام صوابية النظرة القضائية بشأن خطورة الأفكار التكفيرية التي حملتها تنظيمات ادَّعت لنفسها صفة الانتماء إلى الدين الإسلامي، فيما هي لا تمت إلى سماحة مبادئه وتعاليمه بأي شيء على الإطلاق، بل على العكس تماماً، فإن سلوكياتها المنحرفة والخارجة عن أصول الإسلام، تشوّه هذا الدين في الدرجة الأولى وتزيد الشرخ بين البشرية، وتعيد نفسها إلى زمن التخلّف والجاهلية، في وقت صار فيه العالم يحلّق في آفاق الحداثة على مختلف الصعد، وبما يعود على الإنسانية بالخير.

فعندما كانت القرارات القضائية تتحدث عن وجود لا بأس به لتنظيم «القاعدة» وأخواته في لبنان، كان هناك مسؤولون في السلطة وخارجها، ينفون ذلك، من دون أن يسعوا إلى تأكيد نفيهم عبر العمل على منع التمدّد القائم على قدم وساق، واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة والسريعة للحؤول دون هذا التوسّع الجغرافي الذي يرتّب نتائج وخيمة إن ترك على غاربه، إلى أن تبيّن أن هذه التنظيمات لم تكفّ يوماً عن تشييد بيئتها، في الخفاء، لتحمي نفسها بها، مستفيدة من العمى السياسي الذي يضرّ صاحبه قبل أن يؤذي الآخرين.

ومع استفحال الأزمة في سوريا والعراق، بات الخوف كبيراً على لبنان من تأثيرات «القاعدة»، و«داعش»، و«جبهة النصرة»، وغيرها من التسميات، وبات استدراك الخطأ السياسي نعمة، عبر تضامن اللبنانيين، وتكاتفهم للتصدي للمشاريع التكفيرية التي تطاول الجميع من دون استثناء، والتي لن يبقى أحد بمأمن من شرّها، إن هي استفادت من الهوّة السحيقة المصطنعة بين اللبنانيين، ومن الاحتقان الطائفي والمذهبي الآخذ في الاتساع وبلا هوادة، ومن رقعة التنافس غير المجدي في ابتكار الأعذار والدوافع للعودة إلى الحروب وتسهيل وقوعها، ومن التوظيف السياسي الآثم للأحداث الأمنية الصغيرة والتي لا يعتدّ بها عادة.

إن تفكّك الدولة لا يتمثّل فقط، في إفراغها من سلطاتها الدستورية، والذهاب بعيداً في عملية الانكفاء إلى الخلف أمام المصلحة الوطنية العليا، بل يتجسّد أيضاً في السماح للعدو، إسرائيلياً كان، أم تكفيرياً، في الاستفادة من مناخات التفرقة والتشرذم التي لا تنعش وطناً، ولا تفيد مواطناً، بل تؤدّي إلى الموت والخراب.

لذلك، فإن توحّد اللبنانيين أمر ضروري وواجب وطني، قبل أي شيء آخر، وفي هذا الظرف والتوقيت، واليوم قبل الغد، والتأجيل في موضوع كهذا مضرّ ومؤذ، وذلك للحؤول دون انتشار «داعش» وفروعها في لبنان بشكل مخيف ومؤثّر على هيبة الدولة ومكانتها وسمعتها، وعلى نكهة لبنان وتعدّديته وعلمانيته الطوائفية، ولا يوجد شيء على الإطلاق، يفوق بقاء الوطن أهمية.

إن إصرار بعض السياسيين على تحميل إخوانهم في الوطن مسؤولية دخول «داعش» إلى لبنان، لا ينفع مصلحة البلاد في شيء، بل يزيد التوتّر، ويفاقم الخلافات، والأفضل للجميع التشبّه بتوحّد العالم الغربي والعربي، ولو متأخراً، لمكافحة الإرهاب المتمثل بتنظيم «داعش»، وما أفرزه لدى الرأي العام العربي والدولي، من صور مرعبة ومقزّزة تظلّ وصمة عار على جبين مرتكبيها وداعميهم.

ولا بأس، إن وضع السياسيون في لبنان خلافاتهم جانباً، ونبذوا القطيعة المستحكمة بمصير الناس، واتحدوا للتصدّي لموجة التكفير التي تعمّ سوريا والعراق والزاحفة إلى المنطقة برمتها، من دون أن ينجو أحد من لوثتها، ومصائبها، وتداعياتها، وتأثيراتها السلبية، وخطورتها، على الشعوب، والإنسانية جمعاء.

ومن المؤكدّ أنه لو نسي اللبنانيون خصوماتهم السياسية، وتضامنوا في ما بينهم، فإن لا «داعش»، ولا سواه، يقدر على خرق جدار الوحدة مهما بلغ من القوّة والسطوة والنفوذ. وبهذه الطريقة المُثلى يصان الوطن الجامع الذي يظل أعلى وأهم من كل الخلافات، ومن يمزّق ثوبه بيديه، يظل عارياً سنوات وسنوات.