أن يتخذ الرئيس ترمب قراراً بحجم قتل قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، هو أمر يدعو للاعتقاد أن مستجدات ما طرأت حتّمت على واشنطن الذهاب بعيداً في سياسة لي الذراع الإيرانية ما لم تكن محاولة كسرها، وثابت أيضاً أن من اتخذ القرار مدرك حجم رد الفعل الإيراني، وبالتالي حتمية المجابهة ومسارحها المتعددة، لأن العملية تطال كامل هيبة النظام الإيراني المستمر منذ 40 سنة!
المبررات الأميركية عديدة، بينها أنها ضربة استباقية بعدما تأكدت واشنطن أن سليماني كان بصدد تنفيذ أوسع استهداف للوجود الأميركي والمصالح الأميركية. هنا يندرج ما كشفته «رويترز» من أن سليماني أبلغ قادة «الحشد الشعبي» في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، البدء بتكثيف الهجمات على أهدافٍ أميركية باستخدام أسلحة متطورة قدمتها إيران. ومنذ ذلك التاريخ تكثفت الهجمات لتصل إلى حد قتل أميركي وجرح آخرين، وصولاً لما وُصِف بأنه مشروع انقلاب كبير بدأ باستهداف السفارة الأميركية التي كُتب على جدارها الخارجي «سليماني قائدي»، إثر الضربات الجوية الأميركية على مواقع «حزب الله» العراقي! وفي المحصلة يرفض وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مقولة إن العالم بات أقل أمناً، ليعلن أنه بعد مقتل سليماني «أصبح العالم أكثر أمناً»!
يعدُّ الجنرال قاسم سليماني الرجل الأكثر نفوذاً في إيران بعد المرشد، فهو الشخصية التي أُوكل إليها قبل أكثر من عقدين نشر الهيمنة الإيرانية على المنطقة، وبات الرمز للمشروع الإمبراطوري الذي أطلقه الخميني ويتابعه خامنئي. أنشأ الجيوش الرديفة في بلداننا فكان التغول على السلطات، وحيكت حوله القصص، فظهر في حلب والموصل ومضايا ودوما وداريا واليمن ومؤخراً تم كشف النقاب أنه قاد «حرب تموز 2006» من الضاحية الجنوبية لبيروت. ترسانة إعلامية عمّمت نشاطه، فهو القائد الذي يحوز الصلاحيات المطلقة وهو المرجع السياسي، ما تسبب مرتين على الأقل في تقديم الوزير ظريف استقالته، فتضخمت الصورة، فجاء مقتله ليضع المنطقة ولبنان بالتأكيد على فوهة بركان، لأن الضربة طالت هيبة الجمهورية الإسلامية – النظام الذي أقامه الخميني، ما يحتم بالتالي الرد العسكري من جانب طهران!
تحدث الرئيس ترمب عن بنك من 52 هدفاً داخل إيران إذا تجرأ نظام الملالي على الذهاب إلى المواجهة العسكرية باستهداف الجنود الأميركيين أو المصالح الأميركية، وتتصرف واشنطن من خلفية أن طهران لا تستطيع المواجهة المباشرة، وربما تبحث عن مناطق تستهدفها لاعتقادها أنها خاصرة رخوة للأميركيين، تفتح كوة ما في جدار حالة الانسداد. هنا لا يخفى أن طهران التي تواجه ما يشبه التمرد الوطني الواسع، رفضاً لعقود من الظلم والتحكم والإفقار، توسلت مواجهة مضبوطة كي ترفع بوجه الداخل شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة» فيُحكم النظام قبضته مجدداً! تزامن هذا التوجه مع رغبة لدى البيت الأبيض في التصعيد كي يحجّم سياسة «الضرب تحت الحزام» التي يمارسها مجلس النواب الأميركي ضد الرئيس ترمب لإضعاف حظوظه الرئاسية، فكان الحدث والقرار الكبير بقتل سليماني، وهو الأمر الذي عدّه الجنرال الشهير ديفيد بترايوس يفوق في أهميته قتل أسامة بن لادن! ما أربك قرار طهران التي قررت الرد في «الزمان والمكان» المناسبين!
اللافت هنا أنه بين كل أطراف الممانعة تفرد «حزب الله» على لسان زعيمه بتقديم الرد الحاد اللهجة، الذي يتوعد بإخراج الوجود العسكري الأميركي من المنطقة، بما يشطب حظوظ عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض بولاية ثانية. قال: «كانوا يأتون عمودياً، سيعودون أفقياً»، أي قتلى في نعوش. وعندما ذكّر الأميركيين بالعمليات الانتحارية في عام 1983 مضى للقول إن الثأر لقاسم سليماني ليس مهمة إيرانية وحسب، بل هو ثأر لعماد مغنية وراغب حرب وعباس الموسوي ومصطفى بدر الدين، ما يعني أن لبنان، البلد والأرض وبمعزل عن رأي أغلبية أهله، قد يكون المنطلق للرد. الأمر خطير وفيه الكثير من الاستسهال أن يتم إقحام لبنان في أتون المجابهة بين إيران والولايات المتحدة. بلد غارق في أزمات نظام المحاصصة الطائفي وانهيار مالي وأزمات خانقة اقتصادية ومعيشية وعزلة لم يعشها في تاريخه يتم وضعه في ممر الأفيال! كان الخطاب الأكثر وضوحاً في تقديم مصالح إيران على مصلحة لبنان فبات البلد في عين العاصفة!
لكن اللافت أيضاً أنه رغم استسهال استدعاء المجابهة وما يمكن أن تحمله من ويلات، ورغم معرفة الجميع أن سياسات السنوات الأخيرة أخذت البلد إلى العزلة نتيجة الصدام مع المجتمعين العربي والدولي، ما يعني أنه ما من جهة ستمدّ يد العون والمساعدة في مسح السواد الآتي… رغم كل ذلك، يسود الصمت السياسي والغياب لأطراف أساسية من الطبقة السياسية، كل السردية التي قدمتها لجمهورها أنها سيادية ومدافعة عن الاستقلال ومتمسكة بالدستور. لكنّ الأمر الذي يجدر التوقف عنده، هو الفراغ المخيف في رئاسة الوزراء وفي موقع رئيس الوزراء. صحيح أن الحكومة أسقطها الشارع قبل نحوٍ من 75 يوماً، لكنها كحكومة تصريف الأعمال هي قانوناً الجهة الرسمية المسؤولة عن أمن البلد وأهله والمطالبة بتسيير الشأن العام، وهي الجهة المخولة دستورياً التعبير عن توجهه السياسي، والتي تتحمل كامل المسؤولية عن حياة كل المواطنين وسيادة البلد في نهاية المطاف. لبنان في عين العاصفة وهناك من يستسهل استدعاء العدوان دفاعاً عن النظام الإيراني، فيكتشف المواطن العادي حجم النكبة المتأتية عن وجود مثل هذه الشخصيات في موقع القرار ومركز المسؤولية. ويبدو أن الرئيس الحريري اكتفى بـ«الإنجاز» الأبرز وهو الانخراط في تسوية عام 2016 بتبني مرشح «حزب الله» للرئاسة، وانخرط وإلى جانبه د. سمير جعجع في مشروع سياسي يقوده «حزب الله»، ما سرّع في عزلة البلد وانهياره واليوم يتم دفعه إلى التلاشي!
قبل مقتل قاسم سليماني كان فريق السلطة الذي كلّف حسان دياب تشكيل الحكومة يهندس محاصصة مخادعة لإعادة استنساخ الوضع السابق، متجاهلاً أعمق تحرك شعبي شهده لبنان في كل تاريخه بدأ في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، وأسقط ورقة التوت عن أدوار كل الطبقة السياسية المسؤولة عن ارتهان البلد لمحور الممانعة، والمتهمة ليس فقط بالسطو على المال العام بل أيضاً بنهب الودائع وكل جنى أعمار المواطنين، فبلورت الثورة مطالبها بضرورة قيام حكومة مستقلة برئيسها وأعضائها ربما تفرمل الانهيار المالي وتبدأ رحلة استعادة مكانة البلد ودوره، مثل هذا المنحى يحيّد لبنان عن حرائق المنطقة ويلتزم ما جاء في البيانات الوزارية وأكثر ما يلتزم إعلان بعبدا فيعيد لبنان وصل ما انقطع مع الخارج. لكن ما يدعو للأسف والقلق أننا بعد خطاب حسن نصر الله، أمام احتمال ذهاب هذا الفريق إلى حكومة مواجهة تكون درعاً لسياسات «حزب الله» ونهجه. مثل هذا المنحى سيعمّق الأزمات ويفاقم عزلة البلد وسيضع المواطنين في مواجهة حكومة مستفزة فاقدة للشرعية الشعبية لن تتورع عن تغطية أسوأ المغامرات خدمةً لمصالح المحور الإيراني.