IMLebanon

المواجهة بعد المعالجة فـ … المناصحة

لا يختلف العربي مسلماً ومسيحياً ولا المسلم أعجمياً أو افريقياًً عن المسيحي في كل القارات الخمس في نظرته إلى الإرهاب. فالكل إكتوى منه والكل يدفع الثمن الباهظ بين الحين والآخر جرّاء عمليات طالما دفع ألوف الأبرياء حياتهم بسببها.

وبالنسبة إلى الواقعة التي حدثت في باريس وإستهدفت منبراً إعلامياً وأودت بحياة بضعة إعلاميين، فإننا في لبنان سقانا المتآمرون والطامعون والحاسدون من هذه الكأس المرة. لكن الفرق بين الذي جرى لنا وبين الذي جرى لفرنسا هو أن الجريمة في لبنان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر إغتيال الصحافي نسيب المتني، تكون شرارة أولى لحرب أهلية خفيفة الوطأة ما لبثت أن غدت أم الحروب مع واقعة إصطياد بعض ضيوف لبنان من الفلسطينيين لدى مرور الحافلة التي تقلهم في حي شاء الشحن المذهبي خلْق بؤر متوترة فيه، فكان قتْل ركاب إلحافلة ثم كان الحريق الهائل في صيغة حرب أهلية لم يبقَ سيء نية عربي وأجنبي إلاّ وحشر نفسه الأمَّارة بالشر فيها ورمى من السلاح والمال في ميادين الصراع اللبناني – اللبناني ما أبقى على النار دائمة الإشتعال. أمّا في فرنسا فإن الواقعة الإرهابية تحوّلتْ إلى وقفة مبهرة من الوحدة الوطنية كتلك التي حدثت لمرة واحدة وتمثلت بالجمع الألوفي أشخاصاً والمليوني أعلاماً خفَّاقة في قلب بيروت. وبات هذا المشهد حالة تراثية طالما إقتبسها آخرون وقد يجوز القول إن فرنسيي مسيرة يوم الأحد كانوا من جملة المقتبسين. لكن مع كثير الأسف لم نوظف في لبنان ذلك المشهد كما يجب التوظيف ولمجرد عودة الناس إلى بيوتهم وإنزال الأعلام المرفوعة بدأ النقاش الذي لا جدوى منه وكثر إمعان الذين يستعملون الوطن ساحة ولا يعتبرونه ملاذاً يستوجب أعلى درجات الولاء. وإنتهى الأمر كمرحلة جديدة من الإرتباك وليست أخيرة إلى أن لبنان بات بلا رئيس للجمهورية وبات يتقاذف المتلاعبون دستور هذا الوطن وخصوصيته غير عابئين بواجب تأمين الإستقرار له على أمل أن يؤدْي هذا الإستقرار إلى حالة من الإزدهار.

وبقدْر ما نحن ضد الإرهاب الذي أطل برأسه من جديد من الخاصرة الشمالية ويحدث ذلك في يوم المصاب الباريسي المتمثل بعملية إغتيال بارد كتلك التي طالما قدَّمت صناعة السينما عشرات الأفلام حولها ولم تكن عملية إنتحارية، فإننا كنا نتطلع إلى أن تتفادى الشرطة الفرنسية قتْل الشابيْن اللذين نفَّذا عملية إغتيال الإعلاميين والرسامين الفرنسيين، وبدت كما لو أنها فيلم يتضمن أسرع لقطات في تاريخ الإغتيالات، وتجعلنا نتذكر واقعة إغتيال كبير إعلاميي لبنان الخمسينات والستينات المرحوم كامل مروة بعد فؤاد حداد ثم لاحقاً سليم اللوزي. أما لماذا كان تطلُّعنا فلكي نقف على العقل المدبٍّر والمجنِّد للشابيّن وسر مصادفة أن تتم العملية في باريس بالذات وفي وقت هنالك لحظة تاريخية تعوِّل عليها القضية الفلسطينية مقابل عويل وتهديدات إسرائيلية وهجوم كلامي بالغ السوء من جانب نتنياهو ضد فرنسا وبقية الدول التي صوتت لمصلحة المشروع العربي المتعلق بالحل المتوازن للصراع الفلسطيني – الفلسطيني والذي يقضي بأن تنتهي فلسطين دولتين في صيغة توأم مصطنع:دولة ليهود أتوا من الشتات إغتصبت عصاباتهم وطن غيرهم وسلَّم المجتمع الدولي الظالم بهذا الفعل. ودولة لخمسة ملايين فلسطيني عاصمتها القدس الشريف. ورغم هذا الإقتسام كأمر واقع يرفض الذئب الإسرائيلي الذي إعتاد على العدوان والإحتلال وتُبارك الأمم المتحدة بأسلوب غض النظر أفعاله، بدليل أن قرار مجلس الأمن 242 الذي صاغه عام 1967 كحل لنتائج حرب استُدرج عبد الناصر إليها، المندوب البريطاني اللورد كارادون ونال موافقة بالإجماع، تتمرد إسرائيل عليه ولا تنفِّذ ما يتعلق منه بفلسطين وهو الإنسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967 وغرضها من ذلك إبتلاع القدس التي لا يمكن للمليار ونصف المليار مسلم في أي حال وتحت أي ضغوط وأبتزازات التسليم بذلك وإن طال الزمن، إذ كيف يمكن التسليم بالحرم الثالث {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}.

وأما حيثيات التمني ببقاء الشابيْن على قيد الحياة فلكي تكون هنالك محاكمة لهما تطمئن لها النفوس ويتم قطْع الشك بأن تصفيتهما على وجه السرعة هي لطمس حقيقة من جنَّدهما وكيف ولأي غرض وما هو سر هذه التسهيلات لتنفيذ العملية، مع ملاحظة أن الظروف الشخصية للشابيْن تسهِّل عملية تجنيدهما.

ما حصل بات من فعل الماضي، ولن تحل المسيرة الباريسية المشكلة أياً كانت الإجراءات. ومن هنا تجوز المطالبة بأن تسبق المواجهة التي سيمهد لها الرئيس باراك أوباما بالقمة الدولية التي سيستضيفها، ما هو أهم وأكثر فعالية. والأهم هو المعالجة بدءاً بتحييد الأنبياء الذين نشروا رسالات هداية لبني البشر فلا يتجرأ صاحب ريشة على التعبير بما لا يليق في حق خاتم الأنبياء معتبراً أن حرية التعبير تشكِّل خيمة واقية يتصرف تحت سقفها على النحو الذي يراه. ومثل هذا التحييد يحقق نوعاً من الحصانة للوطن فلا تصيبه مكاره، فضلاً عن أن الذين يتناولون بالريشة أو بالقلم أموراً تتعلق بالديانات وبأنبياء الله إنما يفعلون ذلك بدافع المزاجية. وهم لو قرأوا جيداً مضمون الرسالة التي جاء بها الرسول محمد (#) وكيف أن في ثناياها الحلول للبشر، لما كانوا تجرأوا  على الإمساك بالريشة في ساعة غفلة ليرسموا ما يثير المشاعر المليارية المسلمة بين الآسف والغاضب والناقم خصوصاً انه ليس بين هؤلاء من القطب في  آخر الصين إلى القطب في آخر لبنان مهما بلغت نزعته العلمانية أو دقة معادلات ظروفه الخاصة مَن يرى أنه شارلي أبدو لكنه في الوقت نفسه يحرِّم قتْل هذا الـ «شارلي». وكان كل مسلم يتمنى لو ينطق الرئيس الفرنسي أو أحد وزراء حكومته بكلمة لوم للسلوك الإعلامي غير المستحب والمتمثل برسوم تسيء إلى مقامات رسولية. ومع ذلك فإن المجال متاح أمام هذه الكلمة كي لا تتكرر المأساة التي تردع.

المعالجة على نحو ما أشرنا إليه ضرورية وهي مطلوبة من الحكومات التي من باب حماية المجتمع تسن القوانين ما يوجب تحييد الأنبياء وهذا لن يعطل قرائح المبدعين من كتَّاب ورسامين، ذلك أن أفعال أهل السياسة والأحزاب والحركات والتيارات كفيلة بتسطير أفضل الكتابات النقدية وأوجع الرسومات. وإذا كان سن القوانين الرادعة والمتعلقة بتحييد الأنبياء من ساحة التعبير يتطلب المزيد من النقاش والتشاور مع رموز المرجعيات الدينية مع أنه حري بالقمة التي سيستضيفها الرئيس أوباما المبادرة إلى ذلك، فإن الإلتفاف الدولي في هذه القمة حول ما إستبق الملك عبد الله الأخذ به وهو بإنشائه «مركز الحوار بين أتباع الديانات والثقافات» وتبنِّيه كمنظمة تضاف إلى منظمات الأمم المتحدة، يبدو بمثابة خطوة علاجية أُولى تمهد لمزيد من الخطوات ومن بينها أسلوب المناصحة الذي إعتمدتْه المملكة العربية السعودية وأفاد بعض الشيء. وقد يقال إن  هذه المناصحة لم توقف العمليات الإرهابية في المملكة عند حد وأن هنالك سعوديين ينفّذون هذه العمليات. وهذا صحيح، لكن ما هو مهم أن أسلوب المناصحة قلَّص بنسبة كبيرة عدد الأفراد الذين وقعوا في مصيدة الإرهاب، فتاب من تاب، ويخضع مئات للعلاج، وهو أسلوب حضاري ووقائي ويحفظ مع الوقت الوطن من الذي هو أعظم.

ونختم بالقول إن مواجهة الإرهاب أمر مهم… إنما في حال لم تثمر المعالجة تليها المناصحة.

أما عدا ذلك فإن بعض الحكومات ستبقى تخترع ظواهر إرهابية لأغراض تبغيها ثم تشغل الناس بحروب وفي إعتقادها أنها تنقذهم مع أن إزالة الظلم حيثما إستشرى وبالذات الظلم المحيق بالشعب  الفلسطيني كفيل بقطع الإرهاب من جذوره … وينقذ الجميع.