إنتفض الفلسطينيون على نكبتهم، وعادت فلسطين المحتلة لتكون قبلة المتابعة. وبعد ان اعتاد العالم احياء ذكرى النكبة بمجرد احتفالات فارغة وخطابات ومواقف رنانة، أعادت المواجهات في غزة البوصلة باتجاه القضية الفلسطينية وقد فاجأت المقاومة العالم بإمكاناتها المتطورة وقدرتها على الصمود، وأعادت تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة. إستنفر مشهد غزة والقدس الرأي العام الذي خرج متضامناً وأحرج الانظمة التي اضطرت للتماهي معه. اسرائيل اليوم صارت كياناً يمكن هزيمته وزرع الخوف في قلوب مسؤوليه. ذاك الكيان الغاصب القائم على الاحتلال والقتل والقمع تحول الى سخرية واهتزت صورته وتهشمت ودخل في حرب داخلية.
والى الحدود الجنوبية اللبنانية مع فلسطين المحتلة زحف المئات للتعبير عن مشاعر التضامن مع الفلسطينيين. صارت منصة للاحتفال واعلان مواقف التأييد. مشهد الحدود وحده كفيل بحبس الأنفاس خشية ان ترتكب اسرائيل حماقة تنفيساً لواقعها المأزوم وهذا ما اقدمت عليه مع الرصاص الحي، الذي اطلقته باتجاه المتضامنين ما ادى الى استشهاد مواطن لبناني.
منذ أعلنت عن تنفيذ مناورة عسكرية ضخمة اعلن “حزب الله” حالة استنفار قصوى على الحدود مع فلسطين المحتلة بعد ان حذر الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله اسرائيل وحملها مسؤولية اي عدوان على لبنان. ومع انطلاق المواجهات في الشيخ جراح وغزة والقدس المحتلة الغيت المناورة، فيما أبقى “حزب الله” على استنفار عناصره وجهوزيتهم، تحسباً لاي اعتداء اسرائيلي او اي محاولة غير محسوبة العواقب ولا تخدم المقاومة التي يخوضها الفلسطينيون في الداخل.
بالتعاون والتنسيق مع الجيش اللبناني يحرص “حزب الله” على عدم اعطاء اسرائيل اي ذريعة لتوسيع رقعة اعتداءاتها، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال سير الحركة التي شهدتها الحدود والتي كان الجيش حريصاً على ضبطها ومنع محاولات التسلل وتجاوز الحدود. يبدو واضحاً ان “حزب الله” المطمئن الى سير عمل المقاومة الفلسطينية، لا يرى داعياً الى خلط الاوراق وتوريط لبنان بحرب لا تخدم المواجهات التي تشهدها الاراضي الفلسطينية. وأمينه العام السيد حسن نصرالله الذي سبق واستقبل رئيس “حركة حماس” اسماعيل هنية، على امتداد ساعات طويلة قبل اشهر ينسق مع المسؤولين الفلسطينيين الحركة داخل المخيمات الفلسطينية، ولا يرى ثمة حاجة للانخراط في المواجهة العسكرية في الوقت الحاضر، ويراقب عن كثب المواجهات في الداخل الفلسطيني والتي تلحق ضربات موجعة بقوات الاحتلال، مفاجئاً العالم بقدرته على المواجهة والصمود. ما يعني ان ثمة قراراً بعدم الانزلاق الى اية مغامرة وضبط الحدود وعدم السماح بتوسيع المواجهات.
واذا كانت الجبهة الجنوبية محمية فان الجبهة السياسية الداخلية صارت نسياً منسياً على جدول اعمال الدول. لم يعد لبنان اولوية والدول التي كانت معنية بمعالجة ازمته او هي تسعى لذلك، تتفرغ لمتابعة المواجهات في فلسطين المحتلة وما ستنتهي اليه بعد ان كرست وقائع سياسية جديدة. حتى الاطراف اللبنانية تراقب دفة المواجهات لتبني عليها فيما طويت صفحة الحكومة من دون مبادرات تذكر او من يبادرون. فكل ما تشهده المنطقة سينعكس على طاولة المفاوضات السورية السعودية والسعودية الايرانية، فضلاً طبعاً عن المفاوضات الايرانية الاميركية. ربما أعاد المشهد في غزة توحيد الموقف اللبناني نسبياً، كما أعاد تعزيز الاولويات بالنسبة لمواجهة كيان يشكل خطراً وجودياً، وينهي واقعاً جهد الرئيس السابق دونالد ترامب لفرضه من خلال إتباع سياسة المواجهة والإستفزاز للجميع، وانتهاج سياسة فرض العقوبات في لبنان.
في قراءة لمجريات المواجهات في فلسطين المحتلة انطلاقاً من لبنان تبدي اوساط سياسية ارتياحها لسياق الاحداث لتقول ان فحوى ما يحصل سيكون له انعكاساته الايجابية على لبنان، انطلاقاً من سير المفاوضات التي ستتأثر حكماً بسير المعارك في غزة والقدس، لتقول يمكن للبنان ان يخرج رابحاً من التحولات التي تشهدها المنطقة من حوله اذا احسن استغلال الفرصة.
كل ما عدا مشهد المواجهات داخل فلسطين المحتلة لم يعد ذا قيمة، حتى تشكيل حكومة في لبنان لم يعد على نار حامية طالما ان صورة التحولات لم تتوضح بعد. الحركة السياسية في لبنان مجمدة باستثناء نشاط رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورسالته الى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، التي تتضمن احتجاجاً ضمنياً على طريقة تصرف وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، الذي تصرف كأنه لا يعلم بتاريخ العلاقات اللبنانية الفرنسية ولم يتصرف على اساسها، اما الرئيس المكلف فقد ارتأى ان يركب موجة المتضامنين من خلال وفد نيابي قصد الحدود، علماً ان المشهد عموماً قد لا يصب في مصلحته او اقله يخفف من حظوظه ويجعله في موقع المضطر الى التنازل.