هناك قاعدة قديمة يمكن ان يستدل بها الى مجرى الحدث ومنبعه وأهدافه… تقول القاعدة «اذا أردت ان تعرف ماذا يجري في لبنان (مثلاً) عليك ان تعرف ماذا يجري في سوريا…»؟!
و«إذا أردت ان تعرف ماذا يجري في سوريا (مثلاً) عليك ان تعرف ماذا يجري في العراق…»؟!
و«إذا أردت ان تعرف ماذا يجري في العراق (مثلاً) عليك ان تعرف ماذا يجري في المحيط الاقليمي، القريب منه والبعيد…»
قد يكون الحديث عن الدور الاسرائيلي التاريخي – الذي لم يغب عن سائر أزمات المنطقة، من قبل سايكس – بيكو في العام 1916 ومن قبل وعد بلفور في العام 1917، وما بعدها – في نظر كثيرين من باب المبالغة في الاتكاء على «نطرية المؤامرة»، التي باتت في نظر البعض مدعاة للسخرية، وفي نظر البعض الآخر لازمة لا تفارق منطقة المشرق العربي، لاعتبارات عديدة، وعلى مدى التاريخ… ويستحيل قراءة حدث ما، إلا ويكون للأصابع الاسرائيلية – الصهيونية دور بارز فيه… إلا ان الجديد على مستوى أحداث المنطقة، المستجدة، منذ الاحتلال الاميركي للعراق، وتفكيك جيشه الذي كان يعتبر سادس أقوى جيش تقليدي في العالم، وطريقة إدارته لبلاد ما بين النهرين، أفسحت في المجال واسعاً أمام ظاهرات إقليمية تحاول ان تستعيد تاريخها القديم، واستنساخ، او استنهاض، او اعادة بناء «الامبراطوريات» البائدة والمندثرة… التي بدأت تطل برأسها على وقع المخاضات المؤلمة والدامية التي تمتد من العراق، الى سوريا فإلى لبنان، متناسين جوهر الصراع الحقيقي المتمثل بالكيان الاسرائيلي وما نجم عنه، والذي لم تشهد المنطقة استقراراً منذ انشائه في نهاية اربعينات القرن الماضي…
لقد استنفرت الحروب الاسرائيلية المتواصلة والمتتالية عصبيات وطنية وقومية عربية، تجاوزت كل الولاءات الصغيرة والهامشية… لكن هذه العصبيات تراجعت أمام سلسلة «الهزائم» ونبتت الى جانب منها – عصبيات دينية، مذهبية – طائفية، أراحت «إسرائيل» وشغلت «المشرق العربي» خصوصاً والعالم العربي عموماً لاسيما الدول المحيطة، او القريبة من الكيان الاسرائيلي… وغاب مع هذه العصبيات الجديدة – البدائية عامل الوحدة والولاء الجامع والحياة الواحدة والمصير الواحد… واستنفرت العصبيات الجزئية، التي كانت الحاضن الأول للتطلعات الاقليمية الهادفة الى احياء الامبراطورية الفارسية من جهة التي استندت الى «الشيعية السياسية» والامبراطورية العثمانية من جهة ثانية التي استندت الى احياء «السنية السياسية» المستندة بدورها الى تماثل عقائدي بين «الاردوغانية» التركية و«الاخوانية» العربية… (نسبة الى «الاخوان المسلمين»).
فائض القوة» الذي تشعر به ايران وتركيا، كان المدخل الأول للعبور الى الاحلام المستقبلية ووضع الحجر الأساس لهذه الامبراطورية او تلك التي أخذت تترجم على أرض الواقع، بسلسلة تدخلات في الشؤون الداخلية، وفي العمق، لدول المشرق العربي، ووصلت الى مصر، المنافس الرئيس لهاتين الامبراطوريتين المفترضتين…
لم تراعِ ايران، ولا تركيا، خصوصية دول الجوار… والتزام حدود العلاقات الدولية بل والمواثيق الدولية، بل راحتا بعيداً في صياغة المشاريع على أرض الواقع، بالاستناد الى مكونات طائفية ومذهبية، أوجدت بيئة صالحة لاشعال المنطقة، بالتقاطع مع جملة اعتبارات أخرى، داخلية وخارجية (دولية)…
دخلت ايران الى عمق «المشرق العربي» عن طريق المسألة الفلسطينية، واحتضنت حركة «الجهاد الاسلامي» وحركة «حماس»… إلا ان هذه الأخيرة، وما ان اتيحت لها فرصة التخلص من الحاضنة الفارسية انقلبت عليها، لاسيما بعد وصول «الاخوان المسلمين» الى القيادة المصرية، فانعش ذلك المشروع «الاردوغاني» العثماني، الذي سرعان ما انقلب على مصر، بعد سقوط «الاخوان» في تجربة هي الأقصر عمراً في تاريخ المنظمات والاحزاب السياسية…
التغيير الذي حصل في ايران بابعاد احمدي نجاد عن الرئاسة ومجيء «الاعتدال» ممثلاً بالرئيس الجديد حسن روحاني لم يكن كافياً لاسقاط او إزالة قلق سائر دول الخليج من الاطماع الايرانية… ولقد أظهرت التطورات الأخيرة، كم ان الهوة عميقة بين المملكة العربية السعودية وايران، وكم هي صعبة، عملية «اصلاح ذات البين» بين الدولتين الجارتين…
والتغيير الذي حصل في مصر، بابعاد «الاخوان» عن السلطة، والمجيء بالرئيس المشير عبد الفتاح السيسي قطع «شعرة معاوية» مع تركيا «الاردوغانية»، التي نظرت الى الحكم الجديد على أنه «انقلاب» ولا يحظى بارادة شعبية، خلافاً للواقع… وهو أمر، انعكس بحدود او بأخرى على اداء حركة «حماس» القابضة على السلطة في قطاع غزة، المحاذي لسيناء الواقعة تحت السيطرة المصرية، والتي تشاطر «اخوان» مصر المبعدين عن السلطة رأيهم في الحكم الجديد، الذي منذ اللحظة الأولى بدأ يتعرض لعمليات ارهابية في سيناء أودت بحياة العديد من الجنود المصريين.
لم تتأخر القيادة المصرية الجديدة لحظة في اتهام «جهات خارجية» في دعم والوقوف مع هذه العمليات الارهابية… ولم يكن صعباً ادراك المقصود، فسارعت «حماس» الى نفي وقوفها الى جانب الارهابيين بعدما أقفلت مصر معبر رفح… وتعرضت تركيا الى اجراءات من الجانب المصري تمثل في الغاء بعض الاتفاقيات، كمقدمة، او رسالة انذار…
ليس من شك في ان القاهرة تشعر بضغط الرسائل الارهابية وخطورتها… والقيادة الجديدة تسعى الى تشكيل أوسع حاضنة إقليمية تقطع الطريق على «المخطط الارهابي»… وتبني على العلاقات المصرية – السعودية – وتمييز موقفها عما يجري في سوريا، مشروعاً مستقبلياً، «لتعزيز اركان الدولة القوية…» في مواجهة التهديدات المتعددة المظاهر والأسماء والمصالح والارتباطات؟! هذا في وقت تهيء «إسرائيل» نفسها لتوسيع الاستيطان في القدس الشرقية…