أربعة التباسات عمت أوساط السوريين والمعارضة، في تفسير مسار الصراع السوري وآفاقه، بعد الانتصار العسكري للنظام وحلفائه في مدينة حلب.
أولاً، وضع إشارة مساواة بين الهزيمة العسكرية لجماعات المعارضة المسلحة في حلب وبين هزيمة مشروع التغيير السياسي، وكأن ما حصل يؤبد الاستبداد ويرسخ مناخ القمع والعنف، بينما الحال، أن إرادة «المنتصر» وأساليبه القهرية ستبقى عاجزة عن رسم المستقبل السوري، ليس استقواءً بما ارتكب، أو بالحتمية التاريخية وبديهية انتصار الحق والعدل على الظلم والتمييز حتى لو تأخر الزمن، أو بحقيقة دوام الصراع بوجوهه المختلفة في مناطق واسعة لا تزال خارجة عن سيطرة نظام، أضعفته سنوات الصراع الدامي وما استجره من قوى خارجية، وليس لأن من انهزم وفشل هي جماعات مسلحة تحمل أجندة إسلاموية ليس لها علاقة بالثورة السورية وحلمها الديموقراطي، وإنما لأن الأسباب التي دفعت الناس لرفض واقع القهر والفساد لا تزال قائمة بل ازدادت حدة ووضوحاً وعمقاً، فأنّى لمجتمع ظلم وفكك وشرد أن يسترد عافيته وتماسكه من دون إحداث تغيير سياسي يفتح الباب أمام سلطة عادلة، لا تفرضها لغة العنف والإرهاب بل سعيها إلى إنصاف الناس ونيل ثقتهم ورضاهم، كشرط لنيل ثقة المجتمع الدولي ومن دونها يصعب معالجة مخلفات الصراع وملفاته الإنسانية.
ثانياً، قيل إن «الهزيمة يتيمة وللنصر مئة أب»… يحضر هذا المثل الشعبي اليوم للدلالة على تنصل بعض رموز المعارضة، الذين صدمتهم نتائج معركة حلب، مما جرى وتحميل المسؤولية لبقية المعارضين وكيل الاتهامات جزافاً بحقهم.
هو أمر مفهوم ومبرر أن يمارس النقد بشدة بعد أي هزيمة أو انكسار لكشف مواطن الخلل والضعف، لكن ما ليس مفهوماً هو استسهال تحميل المعارضة المسؤولية الكاملة وتوجيه كلمات إدانة وتحقير بحقها، وما ليس مبرراً اعتبار ما تعانيه من تباينات تنظيمية واختلافات في المواقف والرؤى، هو السبب الوحيد لما وصلنا إليه، ما يعني، وبغض النظر عن النيات، إغفال الشروط الموضوعية التي حكمت مسار الصراع، ما يضع علامة استفهام حول دوافع هؤلاء المتهجمين، حين يدينون الضحية وليس الجاني، ويتجاهلون المسؤولية الأساس التي تقع على عاتق السلطة وحلفائها بإصرارهم على عنف مفرط طلباً لحسم عسكري، ربطاً بعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين وفرض خطة للمعالجة السياسية.
ومع إشهار الشروط الموضوعية التي أحاقت ولا تزال بالثورة السورية وقوى التغيير، يصح التوقف عند مسؤولية المعارضة، إن لجهة استمرار تشرذمها وتشتت خطابها وخلافاتها البينية وإن لجهة تراجع أدائها عند تصاعد الحاجة إليه في قيادة الحراك الشعبي ومحاصرة تنامي التيارات الأصولية! ليصح أن نغمز من هذه القناة إلى انحسار مساهمتها في الحفاظ على الوجه السلمي للثورة، وفي التواصل مع الحراك الشعبي ومده بالخبرة، وإلى مبالغتها في الرهان على دعم الخارج والخضوع لإملاءاته، وإلى ضعف دورها السياسي والإعلامي في إثارة أوجاع السوريين لزيادة تعاطف الرأي العام العالمي مع محنتهم، بغرض إحراج المجتمع الدولي وإكراهه على البحث عن مخارج وحلول لوقف الفتك والتنكيل، والأهم عدم مجادلتها لإظهار نفسها كبديل موثوق، يحترم التنوع والتعددية وأمين لثقافة الديموقراطية وقواعدها.
ثالثاً، التمييز بين المجتمع السوري الحي وبين التنظيمات الجهادية وما خلفته من أضرار على الثورة حين سارعت إلى استثمار النهوض الشعبي لفرض أجندتها الخاصة، فأقامت الإمارات، وألزمت بشراً منهكين، بنمط حياتها تحت طائلة أشد العقوبات.
«سورية حرة والنصرة تطلع برة» هو هتاف رفعه متظاهرون في حلب وإدلب وحماة وتكرر في مدن أخرى رداً على محاولات جبهة فتح الشام مصادرة شعاراتهم واعتقال الناشطين المدنيين واغتيال بعضهم، ما يدل على أن الشعب السوري لم يكن راضياً عن الجماعات الجهادية ودورها، وإن غض النظر عنها، فتحت وطأة العنف والاستفزازات الطائفية، فكيف الحال وقد اكتشف أن بعضها لم يقاتل إلا تلبية لما تمليه مصادر تمويله، أو من أجل تحسين مواقعه ومغانمه، بينما بادر بعضها الآخر لعقد صفقات للنجاة عندما استشعر بالخسارة، تاركاً الناس لمصيرهم.
ما سبق يطرح أسئلة تشغل بال الجميع عن احتمال تكرار ما حصل في حلب؟ كيف سيتم الدفاع عن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؟ هل يفضي الإصرار على منطق السلاح وتغطية الجماعات المتطرفة إلى تمكين المسار الثوري أم العكس؟ وهل لا يزال بالإمكان الرهان على معارضة سياسية ونخب ثقافية مستعدة لتحمل مسؤولية نبذ العنف وإعادة بناء ثقة الناس بوحدتهم وبقدرتهم على دفع نضالاتهم بصورة رئيسة، نحو أطوار مدنية، طلباً لحريتهم وحقوقهم؟!.
رابعاً، الخلط بين الثورة التي نهضت كحاجة موضوعية لتغيير الواقع السوري جذرياً ونقضاً للاستبداد والوصاية والفساد ومسوغاتهم الإيديولوجية وبين ما آلت إليه الأمور، بما هو خلط بين ثورة السوريين لنيل حقوقهم وقد تعرضت طلائعها لمختلف وسائل الفتك والتنكيل، قتلاً وسجناً وتهجيراً، وبين ظواهر تغذت من المظالم الشعبية وساقت الصراع نحو أفق إسلاموي لا علاقة له بشعارات الحرية والكرامة، وتالياً التحسب من الانجراف نحو إدانة الثورة كفعل تاريخي مشروع لأن نتائجها لم تأتِ كما نرغب ونشتهي، بما هو تبرئة العنف السلطوي مما أحدثه قاصداً، وإعفاء الذات من مسؤوليتها كما الأدوار الإقليمية والعالمية التي حاصرت الثورة وشجعت على تشويهها.
«راجعين يا حلب» عبارة ملأت ما تبقى من جدران المدينة المنكوبة في مواجهة ما تروجه القوى المضادة بأن انتصارها العسكري نهائي وثابت وعنوان لتعزيز سلطانها… عبارة، تظهر عمق ما أحدثته سنوات الثورة من تحولات، وأن ما رسخ في النفوس والعقول كفيل بتجديد العزم وبلورة قوى للتغيير تسترد روح الثورة وتنفض ما يشوب دورها وآليات عملها من مثالب لتقارع تحديات الراهن السوري مهما اشتدت مصاعبه.
التباسات في قراءة المشهد بعد حلب
أربعة التباسات عمت أوساط السوريين والمعارضة، في تفسير مسار الصراع السوري وآفاقه، بعد الانتصار العسكري للنظام وحلفائه في مدينة حلب.
أولاً، وضع إشارة مساواة بين الهزيمة العسكرية لجماعات المعارضة المسلحة في حلب وبين هزيمة مشروع التغيير السياسي، وكأن ما حصل يؤبد الاستبداد ويرسخ مناخ القمع والعنف، بينما الحال، أن إرادة «المنتصر» وأساليبه القهرية ستبقى عاجزة عن رسم المستقبل السوري، ليس استقواءً بما ارتكب، أو بالحتمية التاريخية وبديهية انتصار الحق والعدل على الظلم والتمييز حتى لو تأخر الزمن، أو بحقيقة دوام الصراع بوجوهه المختلفة في مناطق واسعة لا تزال خارجة عن سيطرة نظام، أضعفته سنوات الصراع الدامي وما استجره من قوى خارجية، وليس لأن من انهزم وفشل هي جماعات مسلحة تحمل أجندة إسلاموية ليس لها علاقة بالثورة السورية وحلمها الديموقراطي، وإنما لأن الأسباب التي دفعت الناس لرفض واقع القهر والفساد لا تزال قائمة بل ازدادت حدة ووضوحاً وعمقاً، فأنّى لمجتمع ظلم وفكك وشرد أن يسترد عافيته وتماسكه من دون إحداث تغيير سياسي يفتح الباب أمام سلطة عادلة، لا تفرضها لغة العنف والإرهاب بل سعيها إلى إنصاف الناس ونيل ثقتهم ورضاهم، كشرط لنيل ثقة المجتمع الدولي ومن دونها يصعب معالجة مخلفات الصراع وملفاته الإنسانية.
ثانياً، قيل إن «الهزيمة يتيمة وللنصر مئة أب»… يحضر هذا المثل الشعبي اليوم للدلالة على تنصل بعض رموز المعارضة، الذين صدمتهم نتائج معركة حلب، مما جرى وتحميل المسؤولية لبقية المعارضين وكيل الاتهامات جزافاً بحقهم.
هو أمر مفهوم ومبرر أن يمارس النقد بشدة بعد أي هزيمة أو انكسار لكشف مواطن الخلل والضعف، لكن ما ليس مفهوماً هو استسهال تحميل المعارضة المسؤولية الكاملة وتوجيه كلمات إدانة وتحقير بحقها، وما ليس مبرراً اعتبار ما تعانيه من تباينات تنظيمية واختلافات في المواقف والرؤى، هو السبب الوحيد لما وصلنا إليه، ما يعني، وبغض النظر عن النيات، إغفال الشروط الموضوعية التي حكمت مسار الصراع، ما يضع علامة استفهام حول دوافع هؤلاء المتهجمين، حين يدينون الضحية وليس الجاني، ويتجاهلون المسؤولية الأساس التي تقع على عاتق السلطة وحلفائها بإصرارهم على عنف مفرط طلباً لحسم عسكري، ربطاً بعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين وفرض خطة للمعالجة السياسية.
ومع إشهار الشروط الموضوعية التي أحاقت ولا تزال بالثورة السورية وقوى التغيير، يصح التوقف عند مسؤولية المعارضة، إن لجهة استمرار تشرذمها وتشتت خطابها وخلافاتها البينية وإن لجهة تراجع أدائها عند تصاعد الحاجة إليه في قيادة الحراك الشعبي ومحاصرة تنامي التيارات الأصولية! ليصح أن نغمز من هذه القناة إلى انحسار مساهمتها في الحفاظ على الوجه السلمي للثورة، وفي التواصل مع الحراك الشعبي ومده بالخبرة، وإلى مبالغتها في الرهان على دعم الخارج والخضوع لإملاءاته، وإلى ضعف دورها السياسي والإعلامي في إثارة أوجاع السوريين لزيادة تعاطف الرأي العام العالمي مع محنتهم، بغرض إحراج المجتمع الدولي وإكراهه على البحث عن مخارج وحلول لوقف الفتك والتنكيل، والأهم عدم مجادلتها لإظهار نفسها كبديل موثوق، يحترم التنوع والتعددية وأمين لثقافة الديموقراطية وقواعدها.
ثالثاً، التمييز بين المجتمع السوري الحي وبين التنظيمات الجهادية وما خلفته من أضرار على الثورة حين سارعت إلى استثمار النهوض الشعبي لفرض أجندتها الخاصة، فأقامت الإمارات، وألزمت بشراً منهكين، بنمط حياتها تحت طائلة أشد العقوبات.
«سورية حرة والنصرة تطلع برة» هو هتاف رفعه متظاهرون في حلب وإدلب وحماة وتكرر في مدن أخرى رداً على محاولات جبهة فتح الشام مصادرة شعاراتهم واعتقال الناشطين المدنيين واغتيال بعضهم، ما يدل على أن الشعب السوري لم يكن راضياً عن الجماعات الجهادية ودورها، وإن غض النظر عنها، فتحت وطأة العنف والاستفزازات الطائفية، فكيف الحال وقد اكتشف أن بعضها لم يقاتل إلا تلبية لما تمليه مصادر تمويله، أو من أجل تحسين مواقعه ومغانمه، بينما بادر بعضها الآخر لعقد صفقات للنجاة عندما استشعر بالخسارة، تاركاً الناس لمصيرهم.
ما سبق يطرح أسئلة تشغل بال الجميع عن احتمال تكرار ما حصل في حلب؟ كيف سيتم الدفاع عن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؟ هل يفضي الإصرار على منطق السلاح وتغطية الجماعات المتطرفة إلى تمكين المسار الثوري أم العكس؟ وهل لا يزال بالإمكان الرهان على معارضة سياسية ونخب ثقافية مستعدة لتحمل مسؤولية نبذ العنف وإعادة بناء ثقة الناس بوحدتهم وبقدرتهم على دفع نضالاتهم بصورة رئيسة، نحو أطوار مدنية، طلباً لحريتهم وحقوقهم؟!.
رابعاً، الخلط بين الثورة التي نهضت كحاجة موضوعية لتغيير الواقع السوري جذرياً ونقضاً للاستبداد والوصاية والفساد ومسوغاتهم الإيديولوجية وبين ما آلت إليه الأمور، بما هو خلط بين ثورة السوريين لنيل حقوقهم وقد تعرضت طلائعها لمختلف وسائل الفتك والتنكيل، قتلاً وسجناً وتهجيراً، وبين ظواهر تغذت من المظالم الشعبية وساقت الصراع نحو أفق إسلاموي لا علاقة له بشعارات الحرية والكرامة، وتالياً التحسب من الانجراف نحو إدانة الثورة كفعل تاريخي مشروع لأن نتائجها لم تأتِ كما نرغب ونشتهي، بما هو تبرئة العنف السلطوي مما أحدثه قاصداً، وإعفاء الذات من مسؤوليتها كما الأدوار الإقليمية والعالمية التي حاصرت الثورة وشجعت على تشويهها.
«راجعين يا حلب» عبارة ملأت ما تبقى من جدران المدينة المنكوبة في مواجهة ما تروجه القوى المضادة بأن انتصارها العسكري نهائي وثابت وعنوان لتعزيز سلطانها… عبارة، تظهر عمق ما أحدثته سنوات الثورة من تحولات، وأن ما رسخ في النفوس والعقول كفيل بتجديد العزم وبلورة قوى للتغيير تسترد روح الثورة وتنفض ما يشوب دورها وآليات عملها من مثالب لتقارع تحديات الراهن السوري مهما اشتدت مصاعبه.