كلام في السياسة |
كأن أحداً من خارج تركيا لم يفاجئه فوز إردوغان وإسلامييه في الانتخابات الأخيرة. وكأن أي عاصمة غربية لم تنزعج من بقاء أحفاد نجم الدين أربكان في حكم أنقرة، حتى مئوية إعلان أتاتورك لدولة تركيا الغربية الحديثة. سلسلة من المفارقات، يمكن لبعض التدقيق أن يسهّل فهمها، أو يطرح التساؤلات حولها، خصوصاً حول انعكاساتها المشرقية، بدءاً من سوريا.
صحيح أن أي بديل سياسي أو «نظامي» لم يكن جاهزاً لمنافسة العدالة والتنمية. كل ما كان مطروحاً هو نوع من الفوضى التركية التي اعتقدها البعض عنصر تسهيل وتمهيد لبعض حلول الأزمات المشرقية وحروبها، من العراق إلى سوريا ولبنان. أقصى ما كان ممكناً مقابل فرضية فوز إردوغان، هو صعود النزعات القومية والعرقية والمذهبية داخل تركيا. أو حتى استشراء التسيّب الأمني، وصولاً إلى توقع أن تتحول تلك القارة الأوراسية إلى «دولة فاشلة» أخرى، كما كتب دايفيد غولدمان بعد انفجاري أنقره مطلع تشرين الأول الماضي. حتى أن بعض التحليلات الغربية كان قد بدأ يتحدث عن انفصال كردستان التركية، بغض نظر تركي، على قاعدة أن تلك الجبال الوعرة لن تكون ذات أهمية استراتيجية لأي طرف فاعل في أنقره. لا من الإسلاميين ولا من القوميين ولا حتى من العسكر أو ما تبقّى منهم. تحليلات كانت تندرج ضمن نظرية «بكستنة» تركيا، نتيجة تورطها في المستنقع السوري. على غرار ما أصاب باكستان، نتيجة غرقها في الوحول الأفغانية. خصوصاً حين يكون الاهتمام الغربي عموماً، والأميركي خصوصاً، قد تحوّل عن أنقره كما تحوّل عن إسلام أباد، لأسباب جيوسياسية واقتصادية مختلفة.
غير أن نتائج الانتخابات التركية جاءت لتخطئ تلك التوقعات، ولتفتح باباً آخر من القراءات. أولها، هو استمرار السعي الغربي، والأميركي خصوصاً، إلى استثمار الصراعات المذهبية الإسلامية ــــ الإسلامية، في هذا العالم الممتد من شمال شرق آسيا حتى ضفاف أوروبا المتوسطية. فرغم أولويات واشنطن المتحولة في القرن الواحد والعشرين، ورغم تبدل قيم النفط والقوة واسرائيل نفسها، ولو بنسب مختلفة، بدا أن الغرب الأميركي لا يزال يهتم بالبحيرة المتوسطية. وبدا أن اهتمامه لا يزال قائماً على فرض التوازنات المتفجرة لا غير. وفي خلاصة تلك التوازنات، ما أنتجته حقبة ما سمي بالربيع العربي. أي أن يكون هناك مثلث متوازن قوة ونفوذاً واحتراباً وصداماً ودموية، هو المثلث الصهيوني ــــ الشيعي ــــ السني، وحده قادرـ بحسب قراءات المذهب الأميركي، على استمرار إشغال هذه المنطقة وقواها، فيما المصالح الأميركية تتجه شرقاً.
الضلع الصهيوني معلن ثابت عنوانه اسرائيل. هو الضلع الذي يحتفل هذه الأيام بذكرى وعد بلفور. وتأتي مفارقة الذكرى مع تنبّه البعض، إلى أن العود المذكور بإقامة الكيان الصهيوني، كان قد تلازم مع تفكير استعماري بإفتعال «ربيع عربي» ما منذ ذلك الزمن. بدليل أن كامبل بنرمان، رئيس وزراء بريطانيا قديماً، كان قد أوصى منذ العام 1907، بأن زرع أي كيان عدائي داخل هذه المنطقة، يجب أن يترافق مع سياسة تدميرية لكل مجتمعاتها وشعوبها، بما يضمن حياة ذلك الكيان، ووجوده وبقاءه على أشلاء عالم إسلامي قوي مترامي الأطراف والمقومات والمقدرات. هكذا كان واضحاً في القراءة الغربية منذ 97 عاماً، أن الضلع الصهيوني ضمن مثلث المنطقة، يحتاج إلى «فوضى شرق أوسطية»، تستولد الضلعين المتكاملين في الصدام والصراع، أي الضلع الشيعي والضلع السني.
وبالعودة إلى وقائع الزمن الراهن، تأخرت واشنطن عقدين ونيف، قبل أن تقبل وتعترف بالضلع الثاني: إيران. قبول واعتراف أعطيا على مضض، خصوصاً في وجه طهران الخمينية التي تصر من جهة على رفع شعار وحدة المسلمين، كما على كسر الضلع الصهيوني، من دون التنازل عن إيديولوجية «الموت لأمريكا»، كما أكد أخيراً خليفة الخميني، بعد إقرار الاتفاق الأميركي الإيراني بالذات.
هكذا بات ضرورياً، بموجب النظرية وبحكم عبر التطبيق، إيجاد الضلع السني ضمن المعادلة المذكورة. والضلع السني خياراته محدودة. هي بين ثلاثة: الرياض، القاهرة أو أنقره. سريعاً تأكد أن الخيار الأول واه ضحل ضعيف حتى الهشاشة والاستحالة. فنظام العائلة السعودية في تركيبته وتاريخيته عاجز عن أداء المهمة، خصوصاً بعدما تكلس على مدى ثمانية عقود في مفهوم بئر نفط لا غير. ولم يكن ينقصه غير رعبه من قيام داعش، لمجرد أنه أيقن فيها نظاماً مطابقاً له، قادراً على الوصول إلى مكة واسبتدال الحلف السعودي ــــ الوهابي بحلف مطابق أكثر «شرعية» و»أصولية». وهو ما لا يمكن لواشنطن أن تستسيغه. فهي وإن كانت تبحث عن ضلع سني مفجر، لكنها تريده صاعقاً محلياً، لا صاعقاً إرهابياً على مستوى الغرب نفسه، ولا صاعقاً «نزوحياً»، ولا تريده خصوصاً ضلعاً خارج نظام اقتصاد السوق وقوانين الداو جونز. أما الخيار المصري فالواضح أنه اعتمد وجرب ووضع تحت ضغوط الاختبار طيلة خمسة أعوام تقريباً. منذ وقع أوباما مذكرته الرئاسية في آب 2010 حول تغيير وجه منطقتنا. لكن النتائج المصرية جاءت مخيبة للآمال الأميركية. خيبات متكررة، من انتخابات مرسي إلى انتخابات السيسي الأخيرة… لم يبق إلا الضلع التركي. هكذا يفوز إردوغان، بأصوات غولن الأميركية، التي سحقها السلطان النيو عثماني قبل عامين، وباجتياح الصحافة المعارضة، تحت نظر واشنطن ونظارتها، فيحفظ مثلث الانفجار المستدام في منطقة بنرمان وبلفور … مبروك إردوغان. مبروك «أمريكا»!