عندما أصدر الكاتب مصطفى جحا عدداً من المؤلّفات التي اعتُبرت كفراً بالدين وبالعروبة وبالقضية، لم يكن يهدف من خلالها، إلى الكفر بالدين والتخلّي عن العروبة وقضاياها، بل كانت محاولات فكرية لادانة مُستغلّي الدين والقضية والعروبة، لأجل العقائد، فترحّم في الأفكار التي أوردها في طيّات كتبه على العقول المُهاجرة للعمق الديني والثقافي والوجودي. ومع اغتياله استمرّت المسرحيات التي أفلح في انتقادها.
وعندما شدّد شارل مالك على ضرورة ترافق الضمير مع العقل، قصَدَ بذلك، ضرورة إرفاق العقل، المُستخدِم للطاقات البشرية، بالمفاهيم الدينية والثقافات الانسانية النيّرة، أي بالضمير، كضمانة لعدم صرف القدرات الانسانية لأجل الشرّ، بل لأجل الخير. فالضمير هو الضمانة، وعزلة العقل هي من هجرة الضمير.
وبقراءة للأوضاع العالمية الحالية نجد أنّ المسار الانساني يمرّ بمراحل يتعرّض فيها لهجرة الضمير أروقة مراكز القرار الدولي والاقليمي، حيث وصل القادة السياسيون والميدانيون الدوليون والاقليميون إلى هجرة عقولهم عن القيم الانسانية، وتركيزها على صخب المعارك لربح لعبة الحرب المقرونة والمربوطة بأهدافٍ ايديولوجية ومصالح استثمارية، وليس بمصالح وحقوق الشعوب.
عندما تندلع حروب التدمير المُتبادل يعمد كل طرف من أطراف الحرب إلى ايلام الطرف الآخر والهائه، بالتدمير المُمنهج للبنى التحتية، ولمقوّمات الحياة والصمود، وتُصبح مشاهد الدمار والقتل والدماء بلا أهمية، فإنّها الحرب، إنّها شرط من شروط الربح «المشروع في لغة القتال». حسب الجنرال كلاوزفيتز في كتابه، الوجيز في الحرب، «الحرب في النهاية عمل عنف تسعى فيه فئة لفرض أرادتها على فئة أخرى، والسيطرة على إرادة الغير لا تعني فقط تجريده من سلاحه، بل تعني فوق ذلك وقبل ذلك، تجريده من ايمانه وثقافته، كأسلحةٍ معنوية، ومن اقتصادياته، كأسلحةٍ مادية». وهذا ما يحدث بالفعل، في المعارك التي نشهدها في عدد من نقاط العالم المتفجّر في وقتنا هذا، حيث أنّ الضمير هجرَ عقول القادة، وتقدّمت عليه المُنافسات بين العقول الحامية، والتي لا تُعيق مخططاتها التوسّعية الاثمان الغالية التي تدفعها الشعوب.
فالحسابات، حسابات ميدانية، والقدرات العقلية، تعمل بكامل طاقاتها لكسب المعارك، بغضّ النظر عن النتائج والتكاليف. والمفاوضات التي تجري بين الأقوياء، لا تأخذ بالحسبان المآسي، والحقوق، لأنّ أهداف الأطراف المتحاربة، عسكرية، سلطوية، وفرضية، ومن يسقط من أبرياء «تحت حجّة التضحيات» هم ضرورة للوصول إلى عدم السقوط العسكري، للانظمة والمُنظمات، والقادة في دولهم، وهنا هي الحرب الفعلية. يقول روسو «لا يكون القوي قوياً بما يكفي ليكون السيّد دائماً، ما لم يُحوّل القوة إلى حق، والطاعة إلى واجب».
ما يحكمه الميدان من غلبةٍ لفريقٍ ما، لا يعني أبداً كسب الحرب، وهذه حقيقة تفوت عقول قادة الحروب، الذين يبدأون بالحرب، ويُتابعون فصولها، ولكنهم يفتقدون للحلول. والحلول الحقيقية، تحتاج إلى ضمائر تُرافق العقول، في حين أنّ ما نشهده من آبار حروب منتشرة في كافة انحاء العالم، يدلّ على هجرة الضمير للعقل الانساني، ففي حين تُطلق المعارك وتُشنّ، باسم الحقوق، تأتي العبر بالنتائج، حيث تفقد الحقوق قوّتها ومنصّاتها، وتُصبح اللغة المحكيّة، لغة العسكر، التي لا تلمّ بالحلول السياسية المنطقية والواقعية. نسمع خطاباتٍ عالية السقف، ولهجةً تهديدية، وتعابير عنفية، تفتقد لمنطق العلم والمعرفة بادارة شؤون الشعوب والدول. خطب تدل على فكرٍ يعتبر أنّه بكسبه للمعارك العسكرية، يستطيع ادارة امور المجتمع. ولكن التساؤل الذي لن يستطيع أي قائد ميداني أو سياسي تجاهله، يكمن في السؤال التالي، هل تأتي الحلول اصلاً عن طريق كسب المعارك العسكرية ؟؟؟ وهل بفرض الطرف الرابح شروطه على الطرف المُنهزم، تستديم الحلول، أم تدفع الطرف الخاسر لمحاولة تغييرها في مرحلةٍ مغايرة، تسمح له بذلك ؟؟؟ إنّها اسئلة تُطرح الآن وأبداً، بوجه كل من لجأ للقوة العسكرية، مُضحّياً بالأبرياء، تحت شعار الحرب، من أجل حقوقهم.