إذا التزمت الولايات المتحدة، ولديها مصلحة أكيدة في ذلك، موقفاً موحداً مع دول مجلس التعاون الخليجي في معارضة أنشطة إيران لزعزعة استقرار المنطقة والتعاون في مواجهتها، كما ورد في البيان الختامي لقمّة كامب ديفيد، فإن من شأن ذلك أن يمكّن الولايات المتحدة، وللمرّة الأولى، من المساهمة في تحقيق مصلحة خليجية وعربية. لكنها مصلحة مرتبطة بأمرين: الأول تأكيد المظلة الأميركية لأمن الخليج وعدم إخضاعه لأي مساومات مع إيران في سياق الاتفاق النووي أو الترتيبات الأمنية الإقليمية، والآخر أن تأخذ إيران في الاعتبار وجود واقع جديد يوجب وقف تدخلاتها في دول الخليج ومراجعة مشروع «تصدير الثورة» ومجمل السياسات الكارثية التي ارتكبتها في إطاره. في الحالين، تجد دول الخليج أن عليها الكثير من العمل، خصوصاً العمل معاً ومع العرب، لتبديد أي خطر أو تهديد، لأن الضمانات والتطمينات لا تكفي، ولأن توقّع التغيير في سلوك إيران يستند إلى منطق يبدو معدوماً في مرجعها الأيديولوجي.
يُؤمَل بأن يكون باراك اوباما أيقن بأن اندفاعه المستميت إلى «الاتفاق» مع إيران شيء، وأن التهاون مع أمن الخليج والتخريب الإيراني لآخر منطقة عربية مستقرّة شيء آخر. وكان واضحاً أنه عمل على تسويق تهرّبه من توقيع «اتفاق دفاعي» مع قادة الخليج لمصلحة الاتفاق النووي، محاذراً استفزاز إيران أو إغضابها أو إعطاءها ذريعة لتعقيد المفاوضات، ومحاولاً تضييق الهوّة بين ما يريده وبين ما يطلبه الخليجيون لكنه تمسّك بـ «الممكن» حريصاً على عدم تجاوزه، ومن هنا جاء إغراق أزمة الثقة بينه وبين قادة الخليج في تفاصيل «شراكة أمنية» بدت ضرورية لإعطاء معنى وعمق للتعهدات الأميركية. ويمكن عزو التفاصيل العسكرية لـ «الشراكة» إلى كونها المرّة الأولى التي تهتم فيها الولايات المتحدة ببناء منظومة دفاعية خليجية متكاملة، بعدما استشعرت قلق الخليجيين وتصميمهم وشخّصت جسامة الخطر الذي تتعرّض له دولهم.
يُؤمَل بأن يكون اوباما فهم أخيراً أن إبعاد خطر «قنبلة نووية» غير موجودة بعد لا يعفيه والمجتمع الدولي من تعطيل «قنبلة مذهبية» برهنت أنها أشدّ خطراً، وبأن يكون لمس أخيراً توظيف إيران للإرهاب وتسميمها كل مكان عربي قصدته. فحتى الآن ورغم تغيّر الظروف لا يزال هناك «داعشان»، واحد أنتجه النظامان السوري والإيراني ويواصلان تشغيله في عدد من مناطق سورية، وآخر يقاتله النظامان بعدما خرج عن عصمتهما. وقد برهنت الوقائع أن «الثورة الإيرانية المصدّرة» لم تجلب للسوريين والعراقيين واليمنيين سوى الإذلال والتجويع والتشريد ودمار الوطن وضياع المستقبل، حتى غدا المصير واحداً في سواده سواء كانت السيطرة لإرهابيين توجّههم إيران أو متفلّتين تسيّرهم غريزة القتل.
ولأن الإرهاب كان بين الهموم الرئيسية للمجتمعين في كامب ديفيد، فلا بد أن أنباء اجتياحات «داعش» في الأنبار بلغتهم وقد تكرر فيها بعض عناصر سيناريو الموصل قبل عام تقريباً: انسحاب أو هروب للقوات الحكومية، قوافل لعشرات آلاف النازحين نحو بغداد كملاذ وحيد متاح، ومئات الأسرى من مدنيين وعسكريين وقعوا في أيدي التنظيم وسرعان ما أُعلن ذبح خمسمئة منهم. كان الكل يعلم خطورة الوضع في الأنبار، وحول مدينة الرمادي تحديداً، لكن السلطة لم تعط أولوية لتعزيز دفاعاتها منعاً لسقوطها كلياً.
رغم ما يروّج عن اختلاف بين حكومتي نوري المالكي وحيدر العبادي، فقد تبيّن أنهما ينفّذان مخططاً إيرانياً واحداً قوامه تصنيع «داعش» وترسيخه في المحافظات السنّية، فالمالكي أمضى نحو عامين يضغط على تلك المناطق كي تخضع لذلك التنظيم وتبرر تدخل جيشه «لإنقاذها» بـ «إخضاعها»، والعبادي أضاع الشهور الماضية في جدليات عقيمة حول تسليح السكان فكان بدوره يضعهم أمام خيارين: إما البقاء تحت نير «داعش»، أو تتولّى ميليشيات إيران «تحريرهم» بـ «إخضاعهم». بل إنه أعطى شرعية قانونية لتلك الميليشيات وأعفى طهران من عبء تمويلها، بل إنه ترك عسكرييه وأمنييه يُنزلون أسوأ أنواع الإذلال بالنازحين داخل بلدهم. وطالما أن ممارسات «الحشد الشعبي» و «داعش» متقاربة، فإن عراقيي نينوى والأنبار وصلاح الدين وجدوا أنهم مدعوون للتخلّي عن الأمل بالخلاص من تنظيم إرهابي لا مستقبل له لمصلحة مستقبل ترسمه لهم إيران من خلال تنظيم آخر يمثّل إرهاباً «مشرعناً» ترعاه دولتهم. أي إرهاب مذهبي يُحارب بإرهاب مذهبي آخر هو تكريس للإرهاب. وأي «تحرير» يُعهد به إلى «الحشد الشعبي» هو إمعان في إنتاج «الدواعش» وإدامتهم.
العراق عينة ذات دلالة، لأنه نموذج لا تزال الولايات المتحدة معنيّة، لكن تقاسمها النفوذ مع إيران رجّح كفّة هذه الأخيرة على نحوٍ قوّض وحدة البلد ومزّق نسيجه الاجتماعي وأدّى إلى تغوّل فئة على فئة كما بينت أخيراً اعتداءات الأعظمية في بغداد. وإذ دعمت قمة كامب ديفيد الحكومة العراقية في محاربتها إرهاب «داعش» فإنها أصبحت تعرف ماذا يعني ذلك عملياً، فإيران هي التي تتحكّم بجهود الحكومة وتديرها. صحيح أن القمة «شجّعت» حكومة العبّادي على إجراء «مصالحة وطنية حقيقية» لكن الجميع يعلم أن إيران لم تحبذ يوماً هذا الاستحقاق الوطني، لذا فهو لم يكن على جدول أعمال الحكومة السابقة أما الحالية فتتعامل معه بالمراوغة. هذا هو الواقع الذي يعترف به جميع من تولّوا ويتولّون الآن ما يسمّى «ملف المصالحة».
ولأن «الالتزام» الأميركي في النموذج العراقي هزيل إلى هذا الحد، ولا يبالي إطلاقاً بالبُعد العربي، أي أن حاله كحال «الالتزام» الأميركي بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن الخليجيين وسائر العرب المعنيين بسورية واليمن ولبنان ملزمون بالحذر الشديد، لأن هذه الأزمات بلغت ذروتها ولم تبدأ المفاوضات الأميركية – الإيرانية بشأنها بعد. فكما كانت إدارة اوباما في المفاوضات النووية مقبلة على تنازلات ومهجوسة بإرضاء طهران، فلا مؤشر إلى أن أداءها سيختلف في الملفات الإقليمية السياسية، سواء في بلورة أميركا لأهداف استراتيجيتها الجديدة أو في سعيها إلى ترتيب مستقبل علاقتها مع نظام الملالي. أما واجب الحذر فلأن إيران لم تعد بعد المجتمع الدولي، وهذه العودة ليست مؤكدة حتى بعد إنجاز «الاتفاق النووي» كما يتوقّع الأميركيون. ولذلك فإنها ليست/ ولن تكون معنية بـ «المبادئ» الثلاثة التي توافق عليها قادة الخليج والرئيس الأميركي.
فمبدأ «احترام سيادة الدولة» ستعتبره إيران «مؤامرة استعمارية – رجعية» على «محور المقاومة»، لأنه يناقض مبدأ «تصدير الثورة» الذي يقود قاسم سليماني وسواه من جنرالاتها إلى الجبهات في سورية والعراق، ويقود علي أكبر ولايتي مستشار المرشد إلى الإشادة بانتهاكات «حزب الله» للسيادة بعد لحظات من لقائه مع رئيس الوزراء اللبناني، ويقود وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان إلى بغداد لحضّها على إنهاء ترددها في إرسال الميليشيات إلى الرمادي. وبالطبع ترفض طهران المبدأ الثاني القائل بأن «لا حل عسكرياً للنزاعات الأهلية بل بالوسائل السياسية والسلمية»، إذ إن أتباعها سبق أن أنهوا أزمة سياسية باجتياح عسكري لبيروت، ولا يزالون يفضّلون حلاً عسكرياً في سورية معطّلين أي مسعى سياسي جدي ولو بتوافق أميركي – روسي، ويعطّلون حالياً أي حل لا يعترف بـ «إنجازاتهم» الميدانية في اليمن. يبقى المبدأ الثالث وهو أن «الحكم يجب أن يشمل الجميع، ويحترم حقوق الإنسان، ويحمي الأقليات»، وقد ترى فيه إيران تدخلاً في شؤونها بالنظر إلى معاملتها للعرب والكرد، أو حتى تدخلاً في شؤون سورية حيث اتّبع النظام الأقلوي نهج الاحتقار لحقوق الغالبية.
ليست لإيران مصلحة في هذه المبادئ السلمية لأنها مناقضة لأيديولوجيتها ولما تعتبره استثماراً ثورياً كلّفها الكثير فيما كانت ترزح تحت العقوبات، لكنه جاء بالنتائج التي توخّتها. وخلافاً لأطراف قمّة كامب ديفيد لا تحترم إيران سوى مصلحة الفئة التي ترعاها، لذلك فهي ستدفع الأميركيين إلى القبول بـ «تسويات» تراعي موازين القوى المسلحة. فبهذا المنطق يمكن إيران أن تكسب ما تعتبره «مصالح» لها في سورية أو في اليمن.