بدأ أمس العمل بالوصفة الطبّية الموحّدة. الكل كان جاهزاً لهذه اللحظة؛ الأطباء تسلّموا دفاتر وصفات جديدة. المصنعون ضخّوا كميات إضافية من أدوية الجينيريك وخفضوا أسعار الأدوية الأصلية. المستوردون والصيادلة والأطباء رضخوا نظراً إلى المفاعيل «الإيجابية» على المدى الطويل. المرضى اكتشفوا أن تراجع الأسعار بلا مبرر تجاري يعكس حجم الأرباح الهائلة من جيوبهم
من أبرز نتائج بدء تطبيق الوصفة الطبية الموحدة، انهيار أسعار الدواء. «مجرّد شعورهم بأن الوصفة دخلت حيّز التنفيذ وأن هناك تغييرات في السوق، بدأت الأسعار تنخفض» يقول وزير الصحة وائل أبو فاعور لـ«الأخبار». وعلى سبيل المثال، انخفض سعر دواء الـ «أوغمنتين» (مضاد حيوي) من 27 ألف ليرة قبل شهرين إلى 13 ألف ليرة، أما الدواء المماثل له، أي الجينيريك مثل «جلمنتين» أو «موكسيكلاف» فسعر كل منهما لا يتجاوز 13 ألف ليرة. كذلك انخفض سعر «لاميسيل» من 70 ألف ليرة إلى 17 ألف ليرة، والدواء الموازي له هو «لامينوكس» الذي لا يزال سعره عند 45 ألف ليرة. أما سعر دواء «ميكالسيك»، فكان 70 ألف ليرة وانخفض إلى 30 ألف ليرة…
اللائحة تطول، لكن أسباب الانخفاض باتت واضحة رغم إصرار مستوردي الأدوية على إلغاء مفاعيل الوصفة الموحدة على السعر. رئيس نقابة مستوردي الأدوية أرمان فارس، قال لـ«الأخبار» إن الوصفة الموحّدة «تحاول أن توجّه الطبيب والمريض لاستعمال الأدوية، وهي تشجّع على الانتقال من استعمال صنف معيّن من الدواء إلى صنف آخر». إلا أن فارس يؤكد «أن الوصفة لا تؤدّي إلى أي تراجع في الأسعار كما يحاول البعض أن يتخيّل، بل هي ستنتج مزيداً من الوعي في السوق على وجود أدوية الجينيريك، رغم أن هناك عدداً كبيراً من الأطباء يصفون أدوية الجينيريك».
ويعزو نائب رئيس نقابة مستوردي الأدوية مروان حكيم، سبب انخفاض الأسعار إلى أسس التسعير. في رأي حكيم «سبب انخفاض الأسعار هو أن سعر الدواء مرتبط أصلاً بأسعار بلد المنشأ، ومرتبط بأسعار المقارنة في دول أوروبا، ومرتبط أيضاً بكونه الدواء الأصلي الذي انتهت فترة الحماية العالمية له، والأدوية في لبنان يعاد تسعيرها كل 5 سنوات، علماً بأن وزير الصحة أصدر قراراً منذ فترة يفرض على أي مستورد أن يبلّغ عن انخفاض السعر في حال تبيّن له انخفاض سعر المنشأ قبل فترة السنوات الخمس…».
وائل أبو فاعور: تراجعت
الأسعار بمجرّد شعورهم بأن الوصفة ستطبق
عمل المستوردون على حصر الأسباب بأسس التسعير سببه «أجواء الرعب» التي عمّمها الوزير أبو فاعور عندما أحال شركة «بفايزر» على النيابة العامة. «كانت الأسعار تتراجع في الخارج من دون أن يبلغوا الوزارة، فأصدرت قراراً يفرض على المستوردين أن يبلغوا الوزارة خلال 7 أسابيع من انخفاض السعر في دول المنشأ و7 أسابيع من انخفاض السعر لدى دول المقارنة».
تضافر هذان العاملان من أجل خفض أسعار الدواء. لكن الوصفة كانت حافزاً أساسياً في هذا الأمر، فهي نتاج عمل استمرّ لنحو 12 سنة وانتهى بتعديل المادة 47 من قانون مزاولة مهنة الصيدلة التي تشير إلى أنه يحق للصيدلي «خلافاً لأي نص آخر، أن يصرف إلى حامل الوصفة الطبية، دواء تحت اسم جنيسي ــGeneric or Brand Generic غير المذكور فيها». وحدّد المشترع مجموعة شروط لهذه الصلاحيات، أبرزها «أن يكون الدواء البديل مشمولاً في لائحة الأدوية البديلة المعتمدة من قبل وزارة الصحة العامة وفق معايير منظمة الصحة العالمية…».
هذا التعديل يمثّل عنصراً مؤثّراً على أسعار الدواء في ظل التنافس بين قطبين عالميين في هذه الصناعة. القطب الأول برعاية أوروبا وأميركا، والثاني برعاية الهند والصين. الأول لا يعترف بجودة الأدوية المصنعة لدى الثاني، بل يهاجم منتجاته على اعتبار أنها تترك أثراً جانبياً خطيراً، ويحظر استعمال المئات منها بين الفترة والأخرى.
محلياً، من الثابت أنه منذ أن اتّخذ قرار نهائي لاعتماد الوصفة الطبية الموحّدة، وهو القرار الذي دفع الأطباء إلى الاعتراض والمماطلة في عملية تلزيم طباعة الوصفة، كانت مكاتب الدواء في لبنان، وهي مكاتب تابعة لمصانع الدواء العالمية، قد أطلقت حملات إعلامية ولقاءات مع الأطباء من أجل إطلاعهم على خططها التسويقية الجديدة والتي تتضمن أدوية «جينيريك» في السوق والإبقاء على «المنافع» المخصصة للأطباء. العلاقة بين المكاتب والأطباء كانت قائمة على صيغ تتضمن حصول الطبيب على رحلات مجانية إلى الخارج وعلى عينات مجانية وغيرها، مقابل وصف أصناف الشركة للمرضى. وفي الغالب، كانت هذه الشركات تسوّق للأدوية الأصلية، وهي الأدوية الأغلى ثمناً، إذ إن الإحصاءات السوقية تشير إلى أن الأدوية الأغلى ثمناً، وهي المخصصة لعلاج أمراض السكري والضغط والالتهابات والكبد والدم وسواها هي الأكثر استعمالاً في السوق… وبالتالي، إن أدوية الجينيريك المنتشرة في السوق والتي تشكّل 40% من عدد الأدوية المبيعة في السوق المحلية، هي الأقل استعمالاً والأقل ثمناً أيضاً ومصدر غالبيتها من بلدان القطب الهندي لصناعة الأدوية.
صيغة العلاقة الجديدة التي تسوّق لها مكاتب الدواء تقوم على ألا يتردّد الأطباء في كتابة وصفات علاج تتضمن أدوية «الجينيريك» فيما تعمل الشركة على خفض أسعار الأدوية الأصلية حتى تتمكن من التنافس مع أدوية الجينيريك المناوئة. هذه المعادلة مبنية على أن هناك نوعين من أدوية الجينيريك في السوق:
ــ الأدوية المنسوخة بتركيبتها العملية والتي تصنّع في بلدان القطب الهندي والصيني والمصري والأردني وسواها… وهي الأقل ثمناً والأقل استهلاكاً في السوق المحلية.
ــ الأدوية التي كانت أصلية (مرجعية) لكنها صنّفت جينيريك بعدما انتهت فترة الحماية الدولية عليها وقرّرت المصانع التي تنتجها أن ترخّص ثمنها إلى مستويات منافسة للأدوية المنسوخة وسميّت Generic Branded.
بالتزامن مع هذا الأمر، أوقف المستوردون، بناءً على رغبة مكاتب الدواء، تزويد الصيدليات ببعض الأصناف التي تنوي خفض أسعارها لتسهيل استهلاك المخزون السوقي وقطع الباب أمام الصيدليات للمطالبة بتعويض فرق الأسعار. وبعد انقطاع الأصناف من السوق، أعيد تزويد السوق بكميات إضافية بالأسعار المخفضة التي تنافس أسعار الجينيريك.
اللافت أن أسس تسعير الدواء الصادرة عن وزارة الصحة تفرض خفض أسعار أدوية الجينيريك بنسبة 50% لدى طرحها في السوق لأول مرّة، وعندما يخفض سعر الدواء المرجعي (الأصلي)، يُفرض خفض سعر الدواء المرجعي بنسبة النصف. الهدف من هذا الأمر هو إبقاء فرق في السعر بين الدواء المرجعي والجينريك لإبقاء التنافس بينهما.
هكذا يتوقع أن تنخفض فاتورة الدواء في لبنان بنسب إجمالية لا تقلّ عن 25%، وخصوصاً أن أرباح مكاتب الدواء والمستوردين والصيادلة لا تقل عن 400 مليون دولار. حجم مبيعات الأدوية، وفق مصادر وزارة الصحة، يتجاوز 1.4 مليار دولار، فيما قيمة الأدوية بأسعار الاستيراد لا تزيد على 980 مليون دولار. المستفيدون من هذه الأرباح هم قلّة قليلة، وستنخفض أرباحهم بعد انخفاض الأسعار، لكنهم يعوّلون على أن المنافسة ستضرب «الجينيريك»، لا الدواء المرجعي.