يبدو أنّ القرار الاستثماري قد صار حيّز التّنفيذ بعد توقيع الاتّفاقيّتين لانضمام قطر إلى كونسورتيوم التنقيب عن الغاز والنفط في المياه اللبنانيّة الأحد الفائت في السراي الحكومي. وذلك على وقع تصعيد بات في صلب مؤسسات الدّولة كلّها، الإداريّة والقضائيّة والعسكريّة ما أدّى إلى ضعضعتها بشكل مقلق. فما هي معالم المرحلة القادمة؟ وهل ستتحرّر الدّولة العميقة لتصبح دولة حقيقيّة أم ستبقى تحت سيطرة «دويتّو المنظومة والمنظمة» في دولة المافيا والميليشيا؟
من أبرز تداعيات الحرب الروسيّة على أوكرانيا انتقال الاهتمام الدّولي من منطقة الشرق الأوسط إلى قلب أوروبا للبحث في كيفيّة تأمين مصادر الطاقة للقارة العجوز لتتمكّن من الصمود أمام آلة الحرب الرّوسيّة. ولعلّ هذا ما جعل لبنان بعيداً من الأولويّات الدوليّة سياسيّاً. لكن من المهمّ التركيز في هذه المرحلة على أنّ الآفاق راهناً ستكون في تحديد الصراع بين الجبارين الروسي والأميركي في السيطرة على شرق المتوسّط.
أسس التحرير
لكن لا يمكن الاعتماد فقط على العامل الدّولي من دون العمل بما تبقى من شرعيّة في قلب الدّولة اللبنانيّة. والهدف يجب أن يكون تحرير الدّولة العميقة من سيطرة المنظّمة والمنظومة. وبالطبع هنا لا أعني بالتحرير أيّ حرب أو أيّ عمل عسكري. فذلك مرفوض لأنّ مَن لغته الكلمة، ودستوره « الكلمة»، لا يكون سلاحه إلا هذه الكلمة بالذات. ومن له أذنان للسماع فليسمع. وهذا التحرير يبدأ بمنع فعل «السلبطة» على الدّولة العميقة وتحويلها من حالة العقم إلى حالة الخصوبة. وذلك لن يكون إلا بانتزاع قدرة التعطيل من يد هذه المنظومة والمنظمة المتسلبطتين على كلّ ما مكّنهما تعطيلهما لاتّفاق الطائف الذي ورثاه عن المحتلّ السوري. من هنا، ضرورة تفعيل طرح اللامركزيّة الإداريّة الموجودة في صلب اتّفاق الطائف، والإنتقال إلى اللامركزيّة الموسّعة لتحرير القدرة الماليّة للمناطق على حساب المركزية التي لم يلحظها الطّائف حيث بقيت المركزيّة الماليّة فيه الأساس.
خارطة الطريق
ولطرح هكذا مشروع سياسي كامل ومتكامل، يجب أن تتأمّن الأكثريّة النيابيّة له. وعلى ما يبدو حتّى الساعة أنّ الأصوات السياديّة الصلبة التي تناهز الخمسين صوتاً ستكون نقطة انطلاق هذا المشروع. ولا يمكن للنائب جبران باسيل بعدما أدلى بدلوه في كلامه الأخير أن يرفض هكذا طرح، وإلا يكون كلامه عكس ما يصرّح به أمام جمهوره فيخسر ما تبقّى. أمّا «اللقاء الديمقراطي» فهو يعيش هذه الحالة اللامركزيّة في مناطق تواجده جغرافيّاً وديموغرافيّاً، وبالتالي هذا الطرح بات الأقرب إلى قناعاته؛ وفي ذلك انتقال من المركزيّة التي كان يُعتَبَرُ من أكثر داعميها في الماضي القريب. أمّا المجموعة السنيّة فلا يمكن أن تقبل بأن تبقى مُهيمَنًا على قرارها، وهي عرّابة اتفاق الطائف مع المملكة العربية السعوديّة التي كانت راعية إقليميّة لهذا الاتّفاق. لذلك يتمّ تعطيل انتخابات رئاسة الجمهوريّة لأنّها ستعيد انتظام مؤسّسات الدّولة. ويعلم المعطّلون جيّداً أنّ قدراتهم التعطيليّة تتلاشى يوماً بعد يومٍ بفعل المقاومة اللبنانيّة لمشاريعهم الأيديولوجيّة هذه. أضافة إلى ضعف محورهم في عقر دارهم. من هنا، خوفهم من أن تؤدّي هذه الانتخابات إلى وصول ما لا يرغبون بوصوله، أي الرئيس الدُّميَة التي يحرّكونها عن بُعد وفقاً لأجندتهم الأيديولوجيّة. لن يتمكّنوا من التعطيل إلى ما لا نهاية. وإن ذهبوا إلى الفوضى الأمنيّة فسيستجلبون التّدويل حتماً. وهذا ما يخشونه. فالمومنتوم الدّولي ينزلق من أيديهم.
مواجهة المشروع اللامركزي الموسّع ساقطة حتماً
يبقى أنّ الثنائيّة الشيعيّة «المتسلبطة» على الدّولة المركزيّة هي التي ستحارب هذا المشروع؛ ولن ينفع هذا المحور، لا في لبنان ولا في أيّ مكان من تواجده، العودة إلى مُنتَجِ داعش ومسيَّرَاتِهِ الإيرانيّة الصنع إذ بات فاقداً صلاحيّة وجوده بعدما كُشِفَتْ أوراقه بالكامل، وتبيّن العالم بأسره مُشغِّلَه الإيراني ومعاونه السوري الذي أمّن له سلاماً ناعماً في الرّقة وتدمر، وحليفه العراقي نوري المالكي الذي ترك له الموصل بكلّ ما تحويه من تراث للحضارات ليدمّره ويهدّد العالم بجبروته المزيّف. والدليل الإضافي ربط هؤلاء الدّائم بأي مطالبة بلامركزيّة ما، بإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي يضمن لهم الغلبة العدديّة.
لكن فات قياديّيها أنّ هذا المشروع الذي على ما يبدو بات قريباً طرحه سيكون برعاية إقليميّة لأنّه سيحمل في طيّاته ما طالبت به المبادرة الكويتيّة منذ سنة تقريباً، وسيكون بمباركة سعوديّة ودول مجلس التعاون الخليجي؛ وقطر ستدعم هذا الطرح لتضمن أرضيّة استثماريّة لها في مجال الطاقة الشرق متوسّطيّة ومن البوابة اللبنانيّة بالذات. وبالنسبة إلى الدّعم الدولي يكفي العودة إلى مفاعيل القرار 2650 الأخير. مع عدم إغفال المأزوميّة التي تضرب العمق الذي ينبع منه هذا المحور بالذات أي الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران. وبالطبع الرهان يجب ألّا يكون على أيّ «خارج» بل الرّهان الحقيقي على قدرة اللبنانيّين الأحرار، وإيمانهم بكيانيّة هذا الوطن. هذا هو السبيل الوحيد لتحرّر الدولة العميقة من فعل سلبطة المافيا والميليشيا.
إنطلق القطار
وفي السياق عينه تأتي أهميّة استحقاق الانتخابات البلديّة المرتقب في أيّار القادم الذي وحده سيشكّل الأرضيّة الصلبة؛ لا بل نواة هذا المشروع الذي بدأ تنفيذه بمبادرات فرديّة في معظم المناطق التي تحرّرت من هذه «السلبطة» بفعل جرأتها على المواجهة الكِيانيّة، والمقاومة اللبنانيّة، والصمود الوجوديّ. قطار تحرير الدّولة العميقة قد انطلق؛ ومَن يَستَقِلُّهُ، يَسْتَقِلُّ في كِيانِهِ في صلبِ الكِيانيَّةِ اللبنانِيَّة.