في بلد العجائب والغرائب كلّ شيء وارد، إذ إنّ نائب المدير يُطالب بصلاحياتٍ توازي المدير من حيث التوقيع، ويعمد مسؤول كبير الى تجاهل جهاز بكامله نتيجة خلاف حصل بين المدير ونائبه في أحد الإجتماعات، وتُحرم العناصر الأمنية من أبسط حقوقها مثل تأمين الطعام خلال الخدمة نتيجة عرقلة بعض المخصّصات، ما يدفع تلك العناصر الى شراء الطعام على نفقتهم الخاصّة.
عناوين كبيرة وصغيرة، تختصر أزمة جهاز أمن الدولة، ومهما حاول البعض تطييفها أو تصنيفها بأنها أزمة إدارية، فهي في الحقيقة تختصر أزمة وطن يعاني الشلل والفراغ، تتعطّل مؤسساته بسبب غياب رئيس الجمهوريّة، القائد الأعلى للقوات المسلّحة، ويسود منطق شريعة الغاب حيث يأكل القويّ الضعيف، فيما الوقوف مع الحقّ في وجه الباطل بات جريمة.
اليوم يجتمع مجلس الوزراء وعلى جدول أعماله بند جهاز أمن الدولة، فيما المشكلة موجودة خارج مجلس الوزراء، وتحتاج الى معالجاتٍ حقيقية لو أراد بعض المسؤولين حلّها.
الصلاحيات
عناوين كثيرة تلخّص الحال التي وصل إليها الجهاز، وكأنّ هناك نيّة في خنقه وتصفيته، خصوصاً عندما تصل الأمور الى مرحلة اللامنطق وخرق القوانين.
لا يُنكر أحدٌ وجودَ خلاف بين المدير العام لأمن الدولة اللواء جورج قرعة ونائبه العميد محمد الطفيلي الذي يطالب بصلاحيات لم ينصّ عليها القانون.
ففي المنطق، ووفقاً لكلّ الدراسات والأبحاث والقواعد الإداريّة، وإذا بسّطنا الأمور، فهل يتمتّع أيّ نائب رئيس في أيّ مؤسسة عامة كانت أو خاصّة بصلاحيات المدير نفسها؟ فكيف الحال إذا كانت هذه المؤسسة أمنيّة؟ وفي التراتبية العسكريّة، فإنّ اللواء قرعة هو أعلى من العميد الطفيلي، فمن أين تأتي المساواة في الصلاحيات؟
بعد إنشاء جهاز أمن الدولة، قرّر المشرّع أن يتألّف مجلسُ القيادة من المدير ونائبه، وتنحصر القرارات التي تتطلّب توقيعَ النائب بثلاثة وهي: التطويع، الترقية، والسفر. أما بقية القرارات والمسائل الإدارية فتتطلّب توقيعَ المدير فقط فيما تمرَّر الى نائبه لأخذ الرأي والتأشيرة (قضايا إدارية).
لكنّ الخطورة تكمن حالياً في محاولة تحويل الرأي والتأشيرة الى توقيع، أي إنّ وزارة المال تقول إنّ الملفات العالقة تحتاج الى توقيع نائب الرئيس، وهذا أمرٌ لا ينصّ عليه القانون، علماً أنّ الأمور كانت تسير بشكل طبيعيّ منذ 30 عاماً، أي إنّ التوقيع هو توقيع، والرأي ينحصر فقط في إبداء الرأي.
هذه المشكلة المفتعلة، والتي على أساسها أوقفت وزارة المال المخصّصات، دفعت الجهازَ الى أخذ رأي ديوان المحاسبة، وكان الجوابُ أنّ الرأي والمشورة ليسا توقيعاً، خصوصاً أنّ ملفات الجهاز تمرَّر الى نائب المدير ويُطلب رأيه لكنه يحتجزها عنده، ما يدفع المدير الى سحب الملفّ أو إرسال ملف آخر الى وزارة المال، لكنّ الملفات والمعاملات توقفها الوزارة.
أمّا الأمر المضحك المبكي في قضية هذا الجهاز، فيعود الى السبب الذي يتحجّج به رئيس الحكومة تمام سلام لإستبعاد اللواء قرعة عن الإجتماعات الأمنية في السراي وعرقلة عمل الجهاز.
ففي أحد الإجتماعات في السراي حصل تشنّجٌ بين قرعة والطفيلي، فغضب سلام، ومنذ ذلك الحين يرفض إستقبالَ قرعة أو حتّى إستدعاءه مع نائبه لمحاولة حلّ الخلاف مجدّداً، على رغم معرفة الجميع أنّ هذا الأمر ليس السبب الحقيقي لإستبعاده. واللافت أنّ هذه المشكلة تهدّد بشلّ الحكومة وحتّى الساعة لم يُقدم سلام على أيّ خطوة لحلّها.
ويُعتبر إستبعادُ الجهاز عن إجتماعات السراي الأمنية عملاً يضرب معنويات عناصره، خصوصاً أنه الجهاز الوحيد الذي يتبع لرئاسة الحكومة. لكنّ الخطورة تكمن في الإصرار على عرقلة عمله، إذ إنه تقدّم من رئاسة الحكومة منذ حزيران الماضي بـ270 طلب «داتا» إتصالات، وتُواجَه الطلبات بالرفض، ممّا يطرح السؤال: مَن يتحمّل مسؤولية وقوع أعمال إرهابية خصوصاً إذا كان الجهاز يلاحق شبكاتٍ تخطط لتفجيرات وإغتيالات، وهل يتحمّل هذا الأمر مَن يحجب «الداتا»؟ وهل يُعقل التعاطي بكيديّة مع جهاز أمني في ظلّ المخاطر الأمنية التي يعيشها لبنان والمنطقة؟
الحلّ المفقود
وفي محاولة لحلّ هذه الإشكالية، أرسل الجهاز رسالة الى سلام لتسيير الأمور الإدارية وتسهيل العمل لكنه بقي مصرّاً على رفضه.
وما يدعو الى الإستغراب أيضاً، هو الحلّ الذي يتردّد اليوم لجهة إعفاء مدير الجهاز ونائبه من مهامهما، علماً أنّ النائب يُحال الى التقاعد في حزيران المقبل بينما ولاية قرعة تستمرّ حتى 26 حزيران 2017، ممّا يزيد الشكوك المتعلّقة في محاولة القضاء على الجهاز، فلماذا يريدون إنهاءَ مهام قرعة وهو غير متَّهم لا بخلل إداري ولا بملف فساد أو تقصير؟
النفقات السرّية
يعاني جهاز أمن الدولة أيضاً من حجب النفقات السرّية التي تُقدّر بـ250 ألف دولار شهرياً أي 3 مليون دولار سنوياً، وهي الأدنى بين بقية الأجهزة، وقد حُجبت منذ تموز الماضي.
فالمادة 79 من قانون المحاسبة العمومية تنصّ على أنّ الأمر بالصرف يتمّ بعد 7 أيام من تاريخ وروده الى وزارة المال وتمدّد الى 10 أيام في حال كانت هناك معاملات صرف رواتب، أي إنها لا تحتاج إمضاء أحد ولا تأشيرة أو رأي، وهنا السؤال: لماذا حجب المال مع إنه يجب صرفه، فيما حجزه يُعتبر مخالفة للقانون؟
لكنّ الوضع المحزن أكثر، هو وصول الأمور الى المسّ بحاجات العناصر، إذ إنّ حجز النفقات ومنع تجزئة النفقة أي الدفع بالفواتير، أدّى الى إيقاف تأمين الطعام للعسكريين خلال خدمتهم، فباتوا يشترون الطعام على نفقتهم، وكذلك الأمر بالنسبة الى صيانة الآليات، والقرطاسية، والإستغناء عن بعض المستخدمين، وعدم القدرة على شراء أدوية للأمراض المستعصية وعرقلة الأمور اللوجستية، فيما اكتفت وزارة المال بدفع معاملات الإستشفاء والمساعدات المدرسية، في انتظار إجراء مناقصات تعوّض عن الشراء بالفاتورة.
كلّ هذه الأمور تدفع الى التحرّك سريعاً لفكّ الحصار عن جهاز أمن الدولة، لأنّ الوقائع والأرقام والقوانين تدلّ فعلاً على مَن يرتكب جرم التعطيل، ويخسّر البلد خدمات جهاز كان يقدّمها على مدى 30 عاماً.