IMLebanon

قصة المؤامرة… أو نظريتها

كلام في السياسة | 

تستحق هذه الرواية أن تروى. بكل حساسياتها ومحرّماتها والأسرار …

يقول سياسي عتيق دقيق، إن ما يجري هذه الأيام في بيروت، انطلقت بذوره الأولى في الثلث الأخير من أيلول الماضي، على الأقل. لا بل يذهب أبعد، ليحدد المكان والزمان اللذين بدأت فيهما الحبكة، وليجزم أنه كان حاضراً شاهداً. يقول: ولدت الفكرة يوم 20 أيلول، في ذلك المسرح الكسرواني الكبير، على هضبة من جونيه الما همها من هدير البحر.

كان هناك تجمع لنحو سبعة آلاف شاب وشابة على الأقل. كلهم مسيحيون، أو غالبيتهم الساحقة. وكلهم من عمر الربيع وجيل التواصل الاجتماعي وليبرالية العصر وحريات ما بعد الحرية. كانوا يضجّون في مقاعدهم ينتظرون زعيمهم. في هذه الأثناء، دخل القاعة شخص من غير أهلها. لا يحكي لغتهم ولا يفهمون كلامه. حتى اسمه غير معروف من معظمهم. لكن صفته يحفظونها غيباً. فكانت المفاجأة: آلاف وقفوا مصفقين هاتفين. مطولاً ظلوا يحيونه، حتى أخذ مقعده وانتظر بداية الاحتفال. كان ذلك يوم أقام التيار الوطني الحر احتفال تسلم جبران باسيل رئاسته. أما الضيف المقصود فلم يكن إلا السفير الإيراني في بيروت.

يروي السياسي الشاهد أن ذلك المشهد لم يمر مرور الكرام. رصدته كل السفارات العربية والغربية. وكتبته كل تقارير الحقائب الدبلوماسية. آلاف الشباب المسيحيين، يحتفون بممثل طهران، في قلب جونيه، وفي خضم المعركة الدائرة في المنطقة والعالم، بين محورين كبيرين يشطرانه شطراً… بعد ثلاثة أسابيع، تكرر المشهد. كان ذلك يوم 11 تشرين الأول. عشرات الآلاف هذه المرة. من البيئة نفسها. نزلوا في قلب جبل لبنان. لا بل في عاصمته وعاصمة تاريخه ورئاسته. يحملون صور زعيمهم ورايات تيارهم وعيوناً لامعة وطروحات كبرى… ويحملون معها صوراً لرئيس دولة بعيدة عنهم في الجغرافيا والتاريخ، اسمه بوتين. في الواقعتين، يجزم السياسي نفسه، سجلت الغرف السوداء محصلة واحدة: ميشال عون ليس رجلاً عابراً. مشروعه ليس مرحلة زائلة. لقد غيّر وجه بيئته. لقد أعاد رسم وجدانها وهويات شبابها وانتماءات أجيالها الآتية. صاروا كلهم صوب الشرق. صاروا أبناء الأرض. عادوا من غربتهم والتغرب. لم يعودوا مشروع حقيبة طائرة ولا جواز سفر ولا استلاباً غربياً ولا وهماً في البحر. صاروا رديفاً استراتيجياً لمقاومة على امتداد المنطقة. من رميش إلى الخابور، ومن شدرا إلى كفربرعم. والأهم، أنهم تركوا خوفهم وخلعوا قلقهم ونزعوا عدم التزامهم وصاروا كلهم مقاومة.

ليس تفصيلاً هذا المشهد، يؤكد السياسي نفسه. أحد الدبلوماسيين الحاضرين قال له مذهولاً: ماذا تفعلون؟ أنتم تتلاعبون بخطوط حمر. أنتم تزجّون أنفسكم في مأزق انتحار. عليكم أن تدركوا أن الانتصار في المنطقة، وفي سوريا، وفي لبنان أيضاً، لن يكون إلا لفريقنا. وستدفعون الثمن! لا تسكت الغرف السوداء العالمية عن هكذا انقلاب. فبدأ التحضير للضربة. وعنوانها الأول بسيط: جعل ميشال عون في موقع التناقض مع حسن نصرالله. وضع هؤلاء المسيحيين بالذات، في موضع الصدمة والطعنة والصفقة، أياً كان الثمن…

من مكان آخر، يروي سياسي آخر، وقائع متمّمة ومكملة. يقول وهو العارف، أن ماكينة أميركية ناشطة في عمل «اللوبي» تحركت بفاعلية منذ أسابيع ضد ميشال عون. يخفض السياسي صوته وهو يهمس، بأنها الماكينة نفسها التي حاولت قبل سنة ونيف استدراج الكنائس اللبنانية إلى فخ صهيوني في واشنطن. يومها حمل أحبار الكنائس كافة، ومعهم تغطية فاتيكانية مدفوعة الكلفة ومرفوعتها، إلى لقاء قيل لهم فيه: إما أن تكونوا أصدقاء لاسرائيل في المنطقة، وإما فلن نهتم بمعاناتكم أو اضطهادكم أو حتى إبادتكم. وحين رفض بعض الأحبار هذا المنطق ورفعوا صوتهم ضده، خرجت الماكينة المنظمة في اليوم التالي ببيان رسمي تقول فيه ما مفاده ان المعترضين على الكلام الصهيوني هم قلة غير ممثلة ولا يعبرون عن رأي أكثرية المشاركين! يقفل السياسي الآخر استعادته لأحداث ذلك الكمين، قبل أن يكشف أن الماكينة نفسها تحركت قبل مدة. بإمكاناتها الضخمة وقدراتها الهائلة. من واشنطن إلى روما وباريس. عصفت أفكاراً وطبخت طروحات ونسجت وحبكت ونجّرت. حتى أن كلاماً كبيراً جداً نقل عن بعض أركانها… أما الهدف فكان هو هو: ضرب ميشال عون. ضرب وجدان ناسه. جعلهم يحسون أنهم غدروا وخذلوا. حتى يقلعوا إلى الأبد عن رفع تلك الصورة أو الاحتفاء بذاك الضيف.

كثيرة هي الحسابات الإقليمية والداخلية والفئوية و»الطائفية» والطوائفية والشخصية والمالية والمصالحية… حتى آخر حسابات المواقع والأدوار. لكن بينها، أو قبلها، حساب أساس: أن تفصل الرابية عن الضاحية. لتنطلق بعدها سكين التقطيع في الرزمة العريضة الحاملة عنوان أرضها والكرامة.

هل تنجح لعبة الدومينو الجديدة والجدية؟ يسارع السياسي الأول إلى الجزم بالنفي. قطعاً سيفشلون. فهم مخطئون جداً في عنوان ميشال عون. ومخطئون قطعاً في عنوان حسن نصرالله. ومخطئون طبعاً في عنوان سليمان فرنجيه. ومخطئون جذرياً في وحدة هؤلاء!

قد تكون الرواية كلها من نسج خيال السياسيين. أو من نوع نظرية المؤامرة. لكنها تستحق أن تروى.