لم يكن على سجيّته رئيس المجلس النيابي نبيه بري في الجلسة الأخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية. بدت «روحه ضيقة» على ما يقال في التعبير الشعبي، أو هي كانت واصلة إلى «رأس منخاره». وكأن همه كان إنهاء هذا الاستعراض في أسرع وقت والمغادرة.
المداخلات القليلة التي سمح بها على مضض، لم يكن يستمع إليها. لم يستمع إلى إي كلمة تتعلق بتفسير مواد الدستور التي يريدها أصحاب المشاريع الخاصة فضفاضة على قياسه.
حتى عبارته التي ذهبت مثلاً «مادة إجرها من الشباك» أظهرت تبرمه وضيق صدره، وذلك رداً على سؤال النائب سامي الجميل عن المادة التي بموجبها يتحدد نصاب الجلسة الثانية.
إلّا أنّ هذه العبارة تبقى الأصدق في كل ما شهدته الجلسة. فكل مواد الدستور نبتت لها أرجل كثيرة تسعى للتسلل خارج مجلس النواب، ولأسباب لا سبيل لإخفائها أو تجميلها.
لذا لا تستوجب هذه العبارة الفاقع صدقها انتقاداً أو استهجاناً. ومن يتابع ما يجري في لبنان ومنذ كانت سيادة هذا البلد مصادرة من «النظام الأسدي»، لتقبض عليه إيران بعد ذلك، ومواد الدستور تبحث عن علاج. ولا نعلم إن كان علاجاً أو مرضاً، نمو أرجل لها، لتمدها إلى حيث يناسب الأجندات والمشاريع لمصادري السيادة… أو لتفرّ من هذه الانتهاكات.
وبالطبع، كان على «أبو مصطفى» وطوال أربعين عاماً، أن يتابع آليات التنفيذ. وهكذا تحوَّل الدستور وجهة نظر ومثار جدل وسبباً للانقسام العمودي، ولم يعد شرعة تستند الدولة إليها وإلى روحيتها لتُدار المؤسسات وتدور عجلة الانتاج.
بالتالي، من حق الرجل أن يتعب، وهو الذي ينوء بكل هذه التحوّلات في جسد المواد الدستورية. ولعلّه لم يعد يستطيع أن يضبط حركة الأرجل النامية أو حركة الشبابيك المفتوحة. أو لعلّ القلق يؤرقه، فينهكه، خوفاً من تحرك الأرجل على إيقاع غير الإيقاع المرسوم لها، فيورطه.
وماذا إذا مدّت المادة رجلها من الشباك لتهرب، أو تستغيث، أو تعترض لكثرة ما انتُهِكت؟ ماذا لو استثمرها المتآمرون على التشريع وهيبته وحرمته؟ هل تعطى الأوامر لشرطة المجلس بإطلاق النار على الرجل الممدودة؟ في الأمر مخاطرة. وتحديداً لأن الشباب متخصصون بالتسديد إلى العيون.
ماذا يمكن أن يحلّ بدستور مفقوءة عينه. الأرجل يمكن تعويضها. فلكل مادة أرجل احتياطية حاضرة لتذهب في الاتجاه المطلوب، لكن إذا أصيبت عينها، قد لا تتوجه وفق التعليمات وقد تصبح كالعدالة عمياء عن أي اعتبارات غرضية لأصحاب المشاريع التي تضر بالجسد الأكبر للدستور، وتطيح بتوازن القرف الحالي.
آخر ما يريده من يتحكم بالبلاد ويصادر سيادتها هو عدالة دستورية عمياء. المفروض أن تبقى العدالة استنسابية، أو أن يصار إلى تفسيرها وفق معادلة لكل مقام مقال. وأخطر ما يريد تجنبه الرئيس بري هو سؤال مباشر وملحاح كالذي وجهه إليه النائب سامي الجميل.
أما الأخطر فهو التوسّع في قيام ممثل الشعب بدوره الحقيقي، كما فعل النائب ملحم خلف عندما امتشق من مواد الدستور كتلة صلبة ملساء ووجّهها بوضوح فاقع وصارخ بوجه جميع المتلاعبين بالدستور، وليس فقط إلى الرئيس الملتزم بثنائيته مع شريك يأتمر بأوامر مشغّله، الذي يسيطر على أربع عواصم عربية، حتى لو حاول التمايز.
لكن يبدو أنّ خروج المرء من تاريخه ليس بالأمر اليسير. فكيف إذا كان المتبرّم هو من كبار المساهمين ومن كبار اللاعبين، وصولاً إلى إفلاس القانون والقضاء وتقويض مؤسسات الدولة وإلى مجاعة تشريعية دفعت مواد الدستور إلى البحث عن نمو أرجل كثيرة والزحف بها نحو شبابيك الخلاص؟