الدستور هو النص القانوني الأوّل في الدول الديموقراطية، يُسيِّر شؤونها ولا يمكن خرقه إلّا بتعديله من السلطة التشريعية الشرعية «ممثّلة الشعب». وللبنان وثيقة الوفاق الوطني أو اتفاق «الطائف» الذي وقِّع عام 1989 وأصبح دستور الدولة، إلّا أنّه لم يُطبّق كاملاً، وخرق بشكلٍ فاضح ومتكرّر منذ 26 عاماً.
اجتهادات دستورية متعددة ومختلفة يطرحها الأفرقاء السياسيون، كلّ حسب مصالحه وأهدافه، ومن أجل استبيان صحة هذه الطروحات أو عدمها، كان لـ«الجمهورية» حديث مع المرجع الدستوري النائب والوزير السابق إدمون رزق، المطلع على تفاصيل ومراحل دستوريّة سابقة أبرزها مشاركته في صوغ إتفاق «الطائف».
وأمام التعطيل المتمادي للمؤسسات، بدأ العقد العادي لاجتماع المجلس النيابي أمس، إلّا أن لا بوادر لاجتماع المجلس لانتخاب رئيس للجمهورية، في انتظار تسويات خارجية كما يرى بعض المحللين. وفي هذا الإطار أكّد رزق أنّه «لا يمكن التحجّج بأيّ طرف خارجي، أيّاً يكن هذا الطرف، فيجب أن نتحمّل مسؤولياتنا ونقوم بواجباتنا، فإما نحن قاصرون بحاجة لأوصياء، أو أننا شعب ناضج وراشد».
وقال: «إنّ المجلس النيابي هو في دورة مستمرة وحال انعقاد حكمي بموجب الدستور، لملء الشغور الرئاسي. اما الدورة العادية فهي تفسح مجالاً اضافياً لانعقاد المجلس لكنّ الأولوية تبقى لانتخاب رئيس».
وشدّد رزق على أنّ «إعادة بناء المؤسسات تتمّ عبر انتخاب رئيس للجمهورية، يكون رمزاً فعلياً لوحدة الوطن، يمارس صلاحياته بشرف، من دون ارتهان لأيّ جهة داخلية أو خارجية، بعيداً من البازار السياسي»، لافتاً إلى «أنّ التنكر لاتفاق «الطائف» شكّل نقضاً للوفاق الوطني وخرقاً متمادياً للدستور وهنا مكمن العلّة، ولا يمكن الحفاظ على كيان لبنان ووحدته إلّا عبر إعادة تطبيق «الطائف» الذي تعلن كلّ القوى السياسية أنها تؤيده وتريد تطبيقه».
الدستور معلّق
واعتبر رزق أنّ «الدستور معلّق في لبنان ولا حياة دستورية في ظلّ أمر واقع ودوامة انقلابية على رغم أنها غير دموية، فمواد الدستور الـ95 غير مطبقة، وقواعد الأمر الواقع هي التي تسري حالياً، لا قواعد القانون الوضعي أو الدستور».
ووصف تعطيل الدستور وتعليقه وإطاحته بأنها «جريمة، ما يؤدّي إلى زعزعة الكيان الموحَّد للدولة»، مشيراً إلى أنّ «كلّ ما يُطرح من نظريات مثل أنّ التغيب عن الجلسات هو حقّ، يشكّل خيانة وطنية ونكولاً عن الموجب الأساسي والبديهي.
فحضور الجلسات الانتخابية هو واجب أخلاقي ودستوري، أما الحقّ فهو انتخاب كلّ نائب أو تكتل نيابي مَن يشاء من المرشحين»، محذراً من أنّ «تذرّع كلّ طرف بعدم حضور الجلسة إلّا عند التأكد من فوز مرشّحه هو طعن مباشر وضرب للنظام الديموقراطي، غير المطبق اليوم في لبنان».
كيف نعود إلى تطبيق الدستور؟ يجيب رزق: «عبر صحوة شعبية وصحوة ضمير من المسؤولين ليمارسوا واجباتهم، فتعطيل البلد ليس حقاً من حقوقهم وليس ممارسة ديموقراطية. وهذا أمرٌ مؤسف ومحزن الى حدّ المأساة الوطنية». ولاحظ أنّ «لبنان لم يعد قادراً على إنقاذ نفسه، وهو بأمسّ الحاجة إلى حاضنة دولية لمساعدته على إنقاذ الجمهورية».
وعن الانتخابات البلدية والنيابية، أكد رزق «أننا لا نأتمن أيّ سلطة قائمة بحكم الأمر الواقع، على إجراء أيّ انتخابات نيابية أو بلدية أو اختيارية لأنها لا تستطيع تأمين الحريات العامة ولا ضمان الأمن جدّياً»، مضيفاً: «لا أريد التحريض على الثورة أو تحميل مسؤوليات عشوائية، ولكن من المفترض أن يبادر مجلس النواب إلى انتخاب رئيس جمهورية يستطيع تحمّل مسؤولياته ويعيد جمع الشمل الوطني، في ظلّ حكم شرعي ميثاقي».
تهديد جدّي لاستمرارية الكيان الموحَّد
وعن قول بعض الجهات إنّ النصوص الدستورية والقانونية تحتاج تعديلاً، وإنّ غموضها هو أحد مسببات الأزمات السياسية في لبنان، شدّد رزق على أنّ «النصوص لا تحتاج أيَّ تعديل، فهي كافية وافية، أما التذرّع بالنصوص فهو تهرّب من المسؤولية وجهالة، ولم نسمع أحداً حتى الآن، يقول ما هو النصّ الذي يريد تعديله، لأنّ الأمر برمّته مضاربة كلامية».
وبالنسبة الى طرح تغيير نظام الدولة اللبنانية لتصبح فدرالية أو سوى ذلك، اعتبر أنْ «لا وجود لصيغة أخرى، فلبنان إما يكون كلّه لجميع أبنائه على السواء، وإمّا لا يبقى منه شيء لأحد منهم، ووحدة لبنان هي وحدة الأرض والشعب والمؤسسات».
ونبّه الى وجود «خطر بنيوي على لبنان وتهديد جدّي لاستمرارية الكيان التعدّدي الموحّد، ولا أحد يمكنه إنقاذ لبنان إلّا أبناؤه، وللأسف لا أرى بوادر إنقاذية أو استيعاباً لحجم الخطر».
وشدّد على أنّ «الأمل اليوم هو في جيل الشباب، الذي أتمنى أن لا يُصاب باللوثة الوبائية، وأن يتحرّر فيأخذ مبادرات إنقاذية لمستقبله، من دون أن يكون مرتهناً لأيّ حزب او اصطفافات، لأنّها كلها فشلت وسقطت».
وعن شلل الحكومة وتلويح رئيسها بتقديم الاستقالة، اعتبر رزق أنّ «الحكومات في البلدان الديموقراطية تنطلق من مشروع مشترك، وهذه الحكومة لم تقم على مشروع مشترك، بل على محاصصة لتقاسم واستملاك حصص من المؤسسات». وأكّد أنّ «اتفاق الطائف هو اتفاق الشراكة الوطنية وليس المحاصصة»، معتبراً أنّ «الترويكا» بدعة، ولا أساس لها في الدستور الذي يقوم على مبدأ «فصل السلطات».
وأشار رزق إلى أنه «لا يمكن للحكومة أن تستقيل، ففي غياب رئيس للجمهورية ثمة استحالة لتأليف غيرها»، موضحاً أنّ «أفدح فشل يُصاب به أيّ رئيس جمهورية، هو ترك البلد من دون تأمين الاستمرارية، وهذا ينسحب على رؤساء الحكومات».
تحتفل كرسي رئاسة الجمهورية في أيار المقبل ببلوغها سنة الفراغ الثانية. وتطفئ شمعة إضافية معمّقةً الظلام الذي تغرق فيه الدولة اللبنانية، متجهةً نحو الاضمحلال وربّما الزوال. فهل ستمتدّ الأيدي لتضيء النفق أمامها، أم أنها ستطفئ شمعتها الأخيرة؟