يُجمع الأكاديميون أنّ أصل المشكلة في لبنان يكمن في دستور العام 1926 الذي وضع نظاماً مركزياً لمجتمع تعددي، فلو اعتمدت اللامركزية الموسعة بمعزل عن مسمياتها هل كان تمّ تَجنيبه الأزمات التي عصفت به؟
يقول الأكاديميون انّ الخطأ الدستوري البنيوي يكمن في التناقض بين منطقين: منطق دولة الانتداب الفرنسية التي نقلت نظامها السياسي إلى لبنان والقائم على مركزية شديدة وعلمانية مطلقة، وهذا النظام يصحّ على مجتمع متجانس وغير طائفي، ومنطق الواقع اللبناني المختلف تماماً عن فرنسا في ظل مجتمع غير متجانس وطائفي بامتياز، وهذا ما وَلّد أزمات الهوية والصراعات على السلطة بين المجموعات التي تتعايش على أرض واحدة وتتجاذبها توجهات بنيوية مختلفة.
ويرى الأكاديميون انه من الخطأ تحميل اي مجموعة لبنانية مسؤولية الأزمات التي ولّدها دستور العام 1926، ويقرّون بأربعة حقوق أساسية:
من حقّ السني ان يشعر بأنّ لبنان الكبير أدى إلى تجزئة العالم العربي والإسلامي، وان يرفض العيش في نظام يترأسه مسيحي وتوجهاته ليبرالية غربية، وان ينجذب للرئيس جمال عبد الناصر والثورة الفلسطينية، وان يعتبر الجيش السوري في بلده الثاني، و…
ومن حقّ الشيعي ان يعتبر الثورة الإيرانية تجسِّد تطلعاته في دولة إسلامية يترأسها الولي الفقيه وتعمل على نشر مبادئ الثورة بالقوة وتُنشِئ أنظمة سياسية مختلفة عن المعايير العالمية من خلال ازدواجية دولة شكلية وميليشيا فعلية.
ومن حقّ الدرزي ان يحافظ على وجوده واستمراريته ضمن بقعة جغرافية لا يشاطره في قرارها اي فريق سياسي، وان يضمن عدم تأثير الديموغرافيا على اختيار ممثليه، وألا يبقى في خشية دائمة على وجوده ودوره.
ومن حقّ المسيحي ان يعيش قيَمه وحرياته بعيداً عن اي تهديد وجودي، وان يطمئن إلى حاضره ومستقبله، وان يمارس دوره طبقاً لقناعاته، وان يبدِّد هواجسه ومخاوفه من التبدلات الديموغرافية.
ويتابع الأكاديميون: تَمسّك المسيحي بالصلاحيات الدستورية التي كانت تسمى بالامتيازات في الجمهورية الأولى اعتقاداً منه ان هذه الصلاحيات تشكل ضمانة لوجوده وهوية لبنان ودوره، وفي حال فقدها يفقد لبنان نهائيته وسيادته ويصبح جزءاً من سوريا او من وطن عربي او أمة إسلامية، وهذا ما يفسِّر رفضه التنازل عن هذه الصلاحيات ليس لأسباب سلطوية، إنما لاعتبارات وجودية.
وليس صحيحاً ان الحرب اندلعت على خلفية سلطوية وانه لو تعدّل الدستور ليُصبح عادلاً متوازناً لكان أهل السنة وضعوا حداً للثورة الفلسطينية على طريقة ما حصل في الأردن، لأنّ الوجدان السني كان يتجاوز مربّع السلطة وحدود البلد مع ثورة حرّكت مشاعره.
وليس صحيحاً اليوم ان «حزب الله» يريد مقايضة سلاحه بسلطة ونفوذ، لأن سلاحه يشكل جزءا من ثورته الدينية والتي يتطلّب تحقيقها استخدام السلاح والعنف، والبحث معه في تسليم سلاحه لن يحصل، ولن تنجح بالمقابل دولة مركزية في ظل هذا السلاح الذي يمنع قيام دولة فعلية من أجل حماية سلاحه ويشكل خطراً على المجموعات الأخرى ودوره يتناقض مع أبسط قواعد إدارة الدول.
ويسجِّل الأكاديميون في المقابل ثلاث إيجابيات أساسية لا بدّ من التوقّف أمامها:
الإيجابية الأولى ان لبنان شهد مرحلة من الاستقرار والتعايش والتآلف والازدهار والتطور والحداثة والبحبوحة، وهذه المرحلة بالذات دفعت البابا بولس الثاني إلى إطلاق شعاره «وطن الرسالة»، وهذا يعني انّ ما شهدته تلك المرحلة يمكن تكراره، وانه من الخطأ الكلام عن تجربة لبنانية غير قابلة للحياة، ولكن التكرار يجب ان يترافق مع التحصينات التي تحول دون الانهيار.
الإيجابية الثانية انه على رغم تباين الرؤى بين المسيحيين والسنة استطاعوا إرساء دعائم دولة وتجاوز المحطات الخلافية الجوهرية، بدءاً من ثورة العام 1958، مرورا باتفاق الطائف، وصولا إلى انتفاضة الاستقلال، ونجحوا بالاتفاق على مساحة مشتركة بعنوان الدولة والدستور والحياد، وهذا النجاح يمكن ان يتجدّد وعلى نطاق أوسع يشمل المكونات اللبنانية كلها، وأيّ تفاهم مستقبلاً يجب ان يتم تحت عنوان إنهاء الصراع على مركزية الدولة تحسيناً لمواقع سلطوية او تحقيقا لمشروع خاص يتناقض مع المشروع المشترك للبنانيين.
الإيجابية الثالثة ان الانقسام العميق بين مشروعين سياسيين لم ينعكس بشكل او بآخر على تواصل الناس وتفاعلها، ما يعني انّ إمكانية توسيع المساحات المشتركة بين اللبنانيين تبقى قائمة شرط الوصول إلى تفاهمات تجنِّب البلد الصراعت الوجودية.
ويتابع الأكاديميون: ليس المطلوب التقسيم ولا التجزئة بل الحفاظ على وحدة لبنان وأراضيه ولكن بطريقة مختلفة تريِّح الجميع طالما يتعذّر التفاهم على أولويات وطنية، وسعياً لإنهاء الصراع بين المجموعات على السلطة من خلال نقل التنافس إلى داخل كل جماعة، فلا يعود اي مكوِّن في وارد تحصين مواقعه السلطوية الطائفية، ولا التمدُّد سلطوياً على حساب الطوائف الأخرى.
وتحقيقاً لما ورد أعلاه يجب الانطلاق من ثلاث وقائع أساسية:
الواقعة الأولى انّ الدولة المركزية فشلت في تأمين متطلبات الناس ومستلزماتهم، وانه لا بدّ من لامركزية موسّعة تسهِّل عيشهم وحياتهم وتطلق يد المبادرة الفردية والتنافس الذي يخدم المصلحة العامة وليس التنافس الذي دمّر البلد ويدمِّره.
الواقعة الثانية ان دوامة الهيمنة على السلطة تحقيقاَ لمشروع أيديولوجي او دفاعاً عن وجود في مواجهة المشروع الأيديولوجي يجب وقفها كونها دمّرت لبنان وهجّرت شعبه، ووقفها سهل من خلال فكّ الاشتباك على الدولة وإعطاء كل جماعة الاستقلالية ضمن الوحدة، فتطمئّنّ كل جماعة على وجودها وحاضرها ومستقبلها.
الواقعة الثالثة لا بأس من استنساخ مقولة الطائفية المؤقتة من خلال الكلام عن إلغاء الطائفية في الدستور بجَعل اللامركزية الموسعة مؤقتة بدورها في حال نجاح اللبنانيين مع تراكم تجربتهم التاريخية بالتحوّل إلى أمة لبنانية وتشييدهم دولة حديثة وشفافة.
ومع غياب الظروف التي تسمح بإنهاء سلاح «حزب الله» فإن الحلّ الوحيد يكمن في تعطيل تأثير هذا السلاح على الجماعات الأخرى في لبنان، وفي فكّ الاشتباك حول السلطة بين من يريد ان يسيطر عليها تحقيقاً لمشروعه الذي لا يشبه البلد وتاريخه وتجربته، وبين من يريد منعه عن طريق الإمساك بمفاصل السلطة حفاظاً على هوية البلد وتعدديته، خصوصاً ان أحد أهداف الحزب إضعاف التعددية لمصلحة أحادية تتحكم بإدارة الدولة.
ولا يبدو انّ هناك مِن حلّ للأزمة اللبنانية سوى بتعديل دستور 1926 قبل الاحتفال بمئويته الأولى، فضلاً عن ان هذا التعديل منصوص عليه في اتفاق الطائف بالكلام عن اللامركزية الموسعة التي حان الوقت لوضعها قيد التنفيذ وعلى أوسع نطاق وفي أقرب فرصة.