لم يعد مفاجئاً ان يتصدّر الخبراء الدستوريون شاشات التلفزة وصفحات وسائل الاعلام لتفسير المواد الدستورية، بغية إلقاء الضوء على حجم المخالفات المرتكبة، من دون القدرة على تصويب الأداء او تصحيحه. فالمنطق يقود الى اعتبار انّ اي رقابة لاحقة امرٌ لا جدوى منه، وهو ما اثبتته التجارب عندما سطت قوة الامر الواقع على الدستور وشكّلت الأكثرية التي وضعته على الرفّ، ومعه كل التفسيرات التي أُعطيت. وعليه ما الذي يقود إلى هذه القراءة؟
تعتقد مصادر سياسية وديبلوماسية ومعها خبراء في الدستور، انّه لم يعد سهلاً إجراء المقاربات العلمية الدقيقة لإحصاء التجاوزات التي حفلت بها الحياة السياسية في لبنان، في مرحلة اختلط فيها ما هو سياسي وحكومي وأمني بما هو دستوري وقضائي، على وقع اسوأ أزمة مالية ونقدية وضعت البلاد على شفير الفوضى بمعناها الشامل، دليلاً لوصول البلد الى مرحلة من الإنحلال. ولم يكن ينقص سوى اعلانها دولة مارقة وفاشلة، يُخشى معها من انهيار شامل، لولا بعض الدعم الخارجي الذي تغاضى حتى الأمس القريب عن كثير مما هو قائم من ارتكابات ومخالفات، استظلّت في اللحظات الحرجة النزاع الاقليمي الذي ضمّ الساحة اللبنانية إلى بقية الساحات الساخنة التي تشهد مواجهات مختلفة بين أحلاف كبرى، جنّدت لها طاقات اقتصادية وعسكرية وديبلوماسية ضخمة تفوق قدرات البلد الصغير على تحمّل تبعاتها.
على هذه الصورة، رست القراءات لوجوه الأزمة التي تعيشها البلاد من جوانبها المختلفة، من دون شعور بذنب ظاهر. وفرضت هذه المعطيات التعبير عن مزيد من القلق على مصير المساعي المبذولة داخلياً وخارجياً من اجل إعادة بناء ما قادت اليه الأزمات المتفاقمة ودمّرته المناكفات السياسية التي تمادت في إدارة ثروات البلاد والعباد، الى درجة لم يعد هناك ما يجري تقاسمه من ثروات ومغانم، إلى انّ بلغت ما بلغته حال الانهيارات الصعبة.
وانطلاقاً من هذه الخلفيات، تعتقد مراجع دستورية وقانونية، انّ معظم ما ارتُكب من موبقات ناجم عن تجاوز القوانين والمواد الدستورية التي تحوّلت مطية للأقوى لفرض وجهة نظره بلا مراعاة لما يُرتكب من مخالفات وتجاوزات رافقت المناقشات التي واكبت الانتقال من ملف الى آخر، فطوي بعض منها على زغل، وبقيت ملفات اخرى تتفاعل وتتمدّد من قطاع الى آخر. وإن توقف هؤلاء امام النقاش الدائر حول ما يُدرج تحت سقف المخالفات الدستورية لا يتسع لها مقال. ففي كل زاوية من زوايا البحث، تظهر المخالفات التي كانت سبباً في تفاقمها، كما في كل قضية ومحطة، حتى القضائية والأمنية والسياسية التي عبرتها البلاد.
وعليه، فإنّ ما شهدته جلسة المجلس النيابي أول من امس الخميس، أوحى بارتكاب مزيد من المخالفات الدستورية، على قاعدة استمرار الخلاف السياسي بين الكتل النيابية حول قانون الانتخاب، وما حمل ردّ رئيس الجمهورية لقانون الإنتخاب الذي اقرّه المجلس النيابي في وقت سابق من ملاحظات ضمن المِهل الدستورية، وهو ما أعاد الجدل حول بعض مواد الدستور وطريقة احتساب الاكثرية النيابية والنصاب القانوني، وعمّا إذا كانت الحاجة الى تحديدها على أساس العدد القانوني للمجلس أي 128 نائباً ام على اساس عدد النواب الحاليين الأحياء، من دون العودة ولو متأخّرة الى البحث في الظروف التي ادّت الى تركيبة المجلس الهجينة. ووصل الأمر ببعض الخبراء الدستوريين الى رفض البحث في هذه المعادلات التي يتجدّد الخلاف حولها مع كل استحقاق بهذا الحجم.
وقال هؤلاء، إنّ من المخجل الدخول في مثل هذا النقاش. فقد افتقد المجلس النيابي منذ منتصف آب العام 2020، ثمانية نواب، وادّت الأقدار بوفاة ثلاثة آخرين. وكان من المفترض بالسلطة السياسية ان تدعو الى انتخابات نيابية فرعية لملء المقاعد الشاغرة ضمن مِهل محدّدة، ليحتفظ المجلس النيابي- ان عُدّ مصدراً لكل السلطات – بكل مواصفاته الدستورية وقبل ان يصل الى ما هو عليه اليوم.
وإن سُئل اي من هذه المراجع الدستورية عن تحديد المسؤول الذي قاد الى حال اليوم، فلا يستطيع ان ينتصر لسلطة او لمسؤول على آخر. فالجميع مسؤولون، وإن كان رئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور قد غضّ النظر عن هذه الاستحقاقات الدستورية، كان من واجب الحكومة ان تقوم بمهماتها بطريقة مرنة وأكثر صرامة لإتمامها، وإن تراجعت عن لعب هذا الدور نتيجة تفاهمات سياسية ووزارية بينية، كان على المجلس النيابي ان يقوم بما يستطيع، الى درجة التحذير وربما المساءلة من التمادي بفقدان صفاته الدستورية كاملة.
ولمّا لم يتحرك ايٌ من هذه السلطات التنفيذية والاشتراعية بما يفرضه الواجب، فقد جاءت عملية توزيع المسؤوليات لتلقى عليها جميعها. فالدستور إن بقي له اي حساب لدى اي منهم، مسؤولين وسلطات، يسمح بإجراء الانتخابات الفرعية في مهلة اقصاها 21 من كانون الاول المقبل، وهي المهلة التي تحتسب مساحة الاشهر الستة من انتهاء ولاية المجلس النيابي في 21 ايار المقبل، ومن بعدها يبدأ الحديث عن اي إجراء مماثل وكأنّه مخالفة دستورية لا نقاش فيها.
ولكن، على الرغم من وضوح هذه الملاحظات، فالنية كانت شاملة لدى جميع المعنيين بتجاوز هذه الوقائع كل «لغاية في نفس يعقوب»، ولا يمكن تجاهل تردّداتها التي نعيشها اليوم. فكل ما رافق الجلسة الاخيرة للمجلس النيابي يقود الى اعتقاد بانّها محطة في مسلسل سياسي ودستوري ما زال مفتوحاً على اخرى، ولعلّ ابرزها بدء الاستعدادات في قصر بعبدا للطعن امام المجلس الدستوري في القانون الجديد الذي وقّعه اول امس كلٌ من رئيس مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي، بعد ساعات قليلة على إقراره في جلسة مشكوك بدستورية ما قامت به، وفي خطوة مستعجلة لا سابق لها سوى الاجتماع الذي جمع رئيس الجمهورية برئيس المجلس الدستوري قبيل الجلسة النيابية، من اجل الاستعداد لخوض هذه التجربة، سواء إن تقدّم رئيس الجمهورية بالطعن او كتلته النيابية فسيان.
وعليه، ومتى أقدم اي منهما، رئيس الجمهورية او تكتل «لبنان القوي» بهذه الخطوة، سيفرض مرحلة جديدة من الانتظار مع ما يرافقها من قلق جدّي ومخاوف على إمكان تجاوز المِهل الدستورية التي ستؤدي الى التأثير سلباً على مجريات التحضير للانتخابات النيابية. وربما جاءت تحذيرات الرئيس نبيه بري عندما توجّه الى كتلة «لبنان القوي» متسائلاً عن النية بتطيير الانتخابات، ما يرفع منسوب القلق، علماً انّ في الكواليس السياسية كلاماً آخر عن وجود من لا يريد هذه الانتخابات. وهو نجح في ان يبقى في الظل طالما انّ هناك من يلعب أدواراً هو في غنى عنها، ليبقى متخفياً خلف كل ما يتعرّض له البلد من خضّات أمنية وسياسية وحكومية، تدفع الى مرحلة الشلل الكامل، تمهيداً للدخول في سيناريوهات اخرى اكثر خطورة، ولن يكون الدستور وحده من ضحاياها طالما انّ التباهي بخرقه لم يعد مخجلاً. وإن بقي هناك بلد متماسك ومؤسسات قادرة على القيام بواجباتها للحفاظ على أبسط مقومات الدولة.