Site icon IMLebanon

خبراء مُحايدون: إعتذروا من الدستور قبل اللبنانيين

 

مع دخول البلاد اليوم مدار الاستحقاق الدستوري لانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية يظهر جلياً أنّ التجاذبات الدستورية سترتفع الى الحدود القصوى وتجنّد لها كل الطاقات من تلك التي وصفت «غب الطلب» أو خلافها. وما ثبت انّ الاجماع محقق حول تفسير واحد لمعظم مواد الدستور المطروحة وحصر الخلاف بالبعض منها. ولذلك طرح السؤال عمّا يعوق التوصل الى إتمام الاستحقاق، وهل انّ المشكلة سياسية أم دستورية؟

ممّا لا شك فيه انّ الماراتون الدستوري الذي انطلق قبل فترة حول بعض المواد الدستورية المتصلة بالاستحقاقات التي تلت الانتخابات النيابية الاخيرة وتلك الواجب عبورها ما زال قائماً. وان تجاوزت الساحة السياسية البعض منها، فإنّ ما يتصل بصلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ما زال قائماً وهو مرشّح الى ازدياد، طالما انّ أيّاً من المعنيين بها لم يقل كلمته النهائية تاركاً لبعض الخبراء والمستشارين المضي في إطلاق بعض التفسيرات المتناقضة.

 

وإن كانت هذه الظاهرة المعروفة في لبنان قد بدأت تثير القلق وتزرع الشكوك بكل ما يتصل بالعلم الدستوري، لم تعكس اجواء مستغربة بعدما اعتاد اللبنانيون ان يكونوا شهودا مع كل استحقاق تشهده البلاد. وهي عملية باتت مملّة تتجدد في كل محطة تفصل بين نهاية عهد وبداية آخر، وعند كل محطة تتصل بتأليف حكومة جديدة، الى درجة بات غيابها مستغرباً وغير طبيعي على الاطلاق.

 

وعلى هذه الخلفيات، حرصت مراجع دستورية مُحايدة على أهمية الفرز بين مختلف المحطات وقراءتها انطلاقاً من الواقع السياسي والدستوري المحيط بكل حالة على حدة، وانّ سياسة التعمية عبر المَزج فيما بينها يجب ان تتوقف نهائيا منعاً لما تتركه من انقسامات حادة في مجتمعات لم تتعوّد بعد على وجود مؤسسة او موقع سياسي يفصل في الخلافات الدستورية لتبقى مدار جدل على الساحات السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية.

 

ومردّ هذا الإتهام الصريح الموجّه الى من يسمونهم «مستشاري البلاط» – وهم موجودون في كل المواقع ـ لئلّا تتجه الانظار الى إحداها فحسب. وهي حالة نشهد عليها في الحالات التي يقصد فيها البعض عن سابق تصور وتصميم الربط بين واقعين مختلفين في التوقيت والشكل والمضمون بمعايير مختلفة جداً. بحيث انه بات عليه ان يقنع نفسه بما يُدلي به قبل ان يدعو احدا الى الاقتناع بوجهة نظره. ولكنه، ولشدة إدراكه لما يريد الوصول اليه وما يريد التعبير عنه وعن غير اقتناع، نراه يبحث عن خيوط يمكن في حال الشبك فيما بينها زَرع الالتباس في بعض المواد الدستورية لعبور مرحلة محددة، سواء طالت ام قصرت.

 

وإن كانت القراءة الدستورية فاشلة احياناً، وقد يشكّل بعضها فضيحة علمية في حد ذاتها، فإنّ نجاحها في بعض الحالات والاعتماد عليها الى درجة الفرض بالتزام مقتضياتها، كان رهناً بوجود قوة قاهرة قادرة على قلب الحقائق وتوفير الحماية لها الى درجة فرضت وجهة نظر متكاملة وحولتها أمراً واقعاً. ولا يخفى هنا على الباحثين في كثير من الحالات التي شهدتها البلاد أنه كان هناك هامش حركة ولو محدوداً يسمح بالاستغلال السياسي لمحطة معينة وضعت فيها المخالفة الدستورية على الرف خصوصا ان كان بطلها سياسيا او حزبيا او شخصا هو نفسه.

 

وانطلاقاً من هذه المؤشرات الخطيرة ينصح الخبراء الدستوريون المحايدون بضرورة وقف هذه المهزلة القائمة على اكثر من مستوى، فمعظم المواد الدستورية التي طال الخلاف حولها في الفترة الأخيرة لا يجب ان تخضع لأيّ نقاش. وان دخلوا في التفاصيل يمكن الإشارة الى الملاحظات الآتية:

 

– لم يكن مسموحاً لأيّ من يدعي الخبرة القانونية والدستورية ان يقارن بين الحديث عن نيّة الرئيس عون البقاء في قصر بعبدا في نهاية ولايته الرئاسية ومرحلة إصراره على البقاء في هذا القصر قبل انتخاب الرئيس رينه معوض رئيسا للجمهورية، والظروف التي حكمت بقاءه فيه عند قيامه بمهمته رئيسا لحكومة كلّفت ملء الشغور الرئاسي في نهاية عهد الرئيس امين الجميل في مواجهة حكومة غير شرعية فرضت قوى الأمر الواقع بقاءها في السرايا الحكومية، وقد حسم يومها حاكم مصرف لبنان المركزي الجدل في شرعيتهما فبقي يتعاطى معهما على حد سواء بكل ما يتصل باستخدام المال العام. ولم يحتسب يومها على عون انه ارتكب اي خطأ قبل رفضه تسليم الامانة الى رئيس منتخب هو الرئيس الياس الهراوي وقبله الرئيس الشهيد رينيه معوض، لربما يومها كان محميّاً ممّن استهدفه في تلك الجريمة لو كان محصناً في القصر الجمهوري.

 

– ليس من المنطق بأي طريقة ان يناقش اي رجل دستور في مسألة قدرة رئيس الجمهورية على سحب التكليف من رئيس الحكومة بعد الاستشارات النيابية الملزمة التي جاءت به، او اللجوء الى تشكيل حكومة اللحظة الاخيرة قبل نهاية الولاية إن لم ينتخب السلف. وقد سجل رافضو الخطوة اليوم اعتذارا متأخرا لأكثر من 42 سنة على رفضهم الاعتراف بشرعية حكومة عون في تلك المرحلة.

 

وان أقرّ الجميع بهذه القراءة الدستورية وما حولها من إجماع، فليس من حق اي منهم ان يرفض تسلّم الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية مجتمعة أيّاً كان شكلها، سواء كانت تصرّف الاعمال او بكل مواصفاتها الدستورية. والى من يدّعي السعي الى أشياء أخرى عليه الإعتذار من الدستور قبل الشعب اللبناني ومن كل من تسبّب له بأذى ولو لكن نفسيا او معنويا. فالدستور أولاً لم يتحدث عن شكل الحكومة عندما قال بانتقال السلطة إليها كاملة. والى من يتحدث عن صلاحيات رئيس الحكومة في مثل هذه الحالة ان يدرك انّ السلطة لم تنتقل اليه شخصياً، وقد بات دوره في ادارة دفّة الحكم مُساوياً لسلطة اي وزير ما عدا تقدّمه بحقه بدعوة مجلس الوزراء الى الاجتماع. فالحكومة العتيدة يمكنها ان تستحوذ على ما يسمح لها من صلاحيات الرئيس. ولذلك فإنّ الدفاع عن صلاحيات رئيس الحكومة هرطقة تساوي سعي آخرين الى ما سمّي «الثلث المعطل»، وقد كانت تجربة الرئيس تمام سلام خير دليل على سخافة هذا المنطق.

 

وختاماً، وأياً كانت تداعيات هذا النقاش البيزنطي، فالجميع يدرك انّ هناك خريطة طريق تبعد البلاد عنه وعن تداعياته، وهي تختصر بالسعي الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية يُنهي جدلاً سياسياً ودستورياً قائماً ولا طائل منه سوى تمديد مهلة عذابات اللبنانيين ومآسيهم.