نالت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الجديدة الثقة الدستورية من كتل المجلس النيابي، حيث صوّتت لصالحها اكثرية عظمى، وتفرّدت كتلة “القوات اللبنانية”، تكتل “الجمهورية القوية” بعدم اعطائها، ولم يتفاجأ الشعب اللبناني بالمواقف الازدواجية لبعض الكتل التي هدّدت سابقاً بعدم اعطاء الثقة ولكنها اقدمت على ذلك فور نيلها لحصصٍ وافرة فيها، لتؤكد ان الثقة لديها تتحرّك، ليس بالاعتبارات الوطنية، بل بالحصص التي تُخضع الحكومات لمصالحها.
امّا بالنسبة لثقة الشعب اللبناني بالحكومات عامةً، فبالرغم من جنوحه الدائم الى اللاثقة بالطبقة السياسية التي تُنتج الحكومات، وفقدانه للآمال بإمكانية منظومة الحكم بإعتماد الحلول الجدّية، كما شكوكه القوية بقدرة افرقاء المعارضة على اجتراح المعالجات التي تؤدي لانقاذ لبنان من براثن وحش المنظومة وتحريره من الحجز الذي وضعه فيه افرقاؤها، اي “حزب الله” والتيار العوني، فيبقى لدى هذا الشعب المُعذّب الارادة الدائمة والتمنّي بتصديق الوعود والتمسّك بحبال الانقاذ الممدودة من التركيبات المستجدّة، ولذلك يعطي الفرص لكل حكومةٍ جديدة ويبني عليها آماله، علّها تحمل في صفوفها شخصيات تُبدّي الحس الوطني والانساني الذي يدفعها للعمل على نشله من جهنّمه، الذي صنعه له ذات الافرقاء الذين اوكلوا هذه الشخصيات لتولّي المسؤولية، فهل من الممكن ان تلتقي الثقتان سوياً في التركيبة الحكومية ذاتها ؟؟؟
عند كلّ مرّة تتشكّل فيها حكومات، ترتفع التوقعات الايجابية وينعكس ذلك تحسّناً على الوضع الوطني العام، وتبدأ التساؤلات عن مدى صدقية الوعود التي أُطلقت لمواكبة عملية التشكيل والثقة البرلمانية، فتكسب بذلك الحكومة الجديدة فرصة سماح تتحدّد فترتها تبعاً لانطلاقتها او تعثّرها، وتنتقل المعارضة الى الترقّب وتجميع النقاط تحضيراً للمراحل القادمة، ولكن مع تشكيل حكومة الرئيس ميقاتي الجديدة، التوقّعات الشعبية غير مُريحة ابداً نتيجةً لسقوط المنظومة الحاكمة في الامتحانات السابقة، كما ان التوقّعات السياسية متشائمة وحبل الثقة قصير جداً، ممّا يُسبّب ضغطاً كبيراً عليها ويُضيّق الفترة التي تتأمل السلطة بخلالها الاستفادة من وقع التشكيل. ولذلك على هذه الحكومة تحقيق صدمة ايجابية فورية وفعلية، وهذا الامر لا يتحقّق إلا بالدخول الى الملفّات الاساسية التي تُعنى مباشرةً بحياة المواطنين، وقد صعُبَ حلّها سابقاً، ويتصدّر اللائحة الملف الاكثر ضغطاً على كافة القطاعات وهو التهريب.
إن التوسّع بالاحلام الحكومية والطروحات المبنية على الدراسات والمقاربات النظرية لم يعد ينفع، بل يقتل الفرصة المعطاة لها، لان كافة الملفّات قد أُشبعت درساً والحلول باتت معروفة، وهي بحاجة للجرأة في اخذ القرارات التنفيذية الاصلاحية، وإلا سيتأكّد المواطن والمراقب والجهات الداخلية والخارجية بأن الحكومة ستكون عقيمة كما كانت سابقتها، وأن المسرحيات اليومية لاجهزتها لرمي عواقب الفشل، تارةً على المصارف، وتارةً اخرى على التجّار، وتارةً على الحصار، كلها مضيعة للوقت، لان معالجة التهريب هي الكفيلة بوقف الهدر فوراً. فلتبدأ الحكومة والحاكم بنفسه اولاً من اصلاحٍ في التوظيفات والتلزيمات والتبعية للمحور والارتهان للمشاريع الاقليمية بخطوة إغلاق المعابر غير الشرعية ومراقبة المعابر الشرعية وضبطها، ومن ثم يُصبح للمداهمات والتوقيفات والمراقبات فائدة زائدة.
إن التمادي والتراخي في معالجة الملفّات له السلبية القاتلة على الحكومة، وخاصةً في ملف اساسي يتشارك التهريب صدارة اللائحة وهو الطاقة، ويعني شيئاً واحداً لا غير، وهو ان التيار العوني المُسيطر على هذا القطاع منذ سنواتٍ عجاف طوال ما زال مُتمسّكاً بسيطرته الفاسدة عليه، وهو السبب الذي ادّى لوقف تنفيذ الاصلاحات فيه حتى الآن. فالتوجّه العوني الدائم هو إبقاء سيادته على هذا القطاع للتوازي مع السيادات على وزارة المال ووزارة الداخلية، وهي فعلياً ليست سيادات بل سيطرات، لان السيادة لا تكون إلا للمؤسسات الرسمية. إنّ اي تأجيل لتشكيل الهيئة الناظمة ضمن الآليات التي تحفظ الكفاءات في قطاع الكهرباء، ولتعيين ادارة لمؤسسة كهرباء لبنان وغياب المناقصات الحقيقية في دائرة المناقصات ودائرة الشراء العام مستقبلاً، وعدم وقف العمل بتوظيفات غبّ الطلب في مؤسسات المياه واستمرار توزيع المحروقات بحسابات انتخابية، وعدم تحرير السوق وعدم اعتماد اللامركزية في الانتاج والتوزيع والاستيفاء، كلها اشارات تؤكد بأن الحكومة لن تستطيع التفلّت من حسابات الفريق العوني الذي اوقع لبنان بخساراتٍ فاقت 40 مليار دولار من هذا القطاع.
امّا بالنسبة لملف آخر اساسي وهو مسألة الامن، فتحقيق الثقة فيه يُعطي السلطة ثقةً عند الشعب والمجتمع الدولي، ولا ضرورة للتذكير بأن الامن غير متساو على اللبنانيين، حيث ما لا يجوز في المناطق العاشقة للدولة ولسيادتها، يشكل فائضاً عنه في مناطق سيطرة “حزب الله”، فهناك الامن بالتراضي، إن حضر، ومن يتحدّى هذا الواقع فعليه السلام، وحسابه مع اللاشرعية حتماً عسير. امّا بالنسبة للجريمة السياسية المُنظّمة فحدّث ولا حرج، وما نشهده الآن من تهديداتٍ لوقف التحقيق في جريمة العصر، جريمة انفجار مرفأ بيروت، هو كافٍ لوصف الواقع الامني وخطوطه الحمر غير الشرعية المرسومة للشرعية، ومن يسعى لعكْس الواقع، ينضم عن سابق تصوّر وتصميم الى قافلة الشهيد اللواء وسام الحسن والشهيد الرائد وسام عيد، فهل من مغاوير في هذه الحكومة مستعدّون لتحمّل التحدّي في الملفّات المذكورة؟؟؟
لنا مسؤولون وشخصيات واجهت الدويلة والدولة الفاسدة مع علمهم المُسبق بخطورة مواقفهم، ولكنهم لم يهابوا ولم يتراجعوا، ولسنا بانتظار ان نرى مماثلين لهم ومن طينتهم في هذه الحكومة، ولكن ما نتمنّاه الا يكونوا في الحكومة بمصاف المنافقين الذين يعتمدون الدجل سبيلاً والكلمات الهزلية في المجالس النيابية سلاحاً، كالذين يتحدّون بفظاظةٍ المنطق السليم والقيم الوطنية والقوانين الراعية للعلاقات بين السلطة والشعب، ومعتمدين، ليس على قوتهم وجرأتهم بل على خضوعهم للدويلة وخيانتهم للوجود وللوعود. المستقبل قريب جداً، والثقة من الملفّات تؤخذ، فالى الامتحان درّ، والى اللقاء.