أسوأ ما وصلنا اليه في عهد المنظومة الحاكمة و”العهد القوي” أن نفرح بموظف قام بواجبه، أو قاضٍ صمد أمام الضغوطات، أو مسؤول رفض رشوة، أو ضابط لم يرتكب مخالفة، أو وزير لم يتورط في صفقة ولم يتمسّح على أعتاب من عيَّنه في المحاصصة التي تُشكَّل على أساسها الحكومات وتجرى التعيينات.
وسواء صدر “لا قرار” المجلس الدستوري بعد فشل الصفقة السياسية المعيبة التي استهدفت التحقيق في جريمة المرفأ، أم انه أفشلها بالامتناع عن التورط غير الأخلاقي والمهني بها، فهو- بالنسبة الى المواطنين العاديين المؤمنين بما تبقى من سلطة قانون لم يفترسها بعد وحش المنظومة الحاكمة – سجَّل سابقة تحسب له في احترام النفس ويجب ألا توصم بالسقطة الشنيعة. فحتى لو احتُسب ما خرج به المجلس نقصاً ومخالفة لما توجبُه طبيعة المقام من ضرورة فصل القول والتعليل، إلا “ان الله لا يحمِّل نفساً إلا وسعها” وهو أفضل ما استطاعه المجلس في ظل الظروف السائدة، ولا يجوز ضمُّه الى ملفات سود سطَّرها بحق نفسه منذ أبطل نيابة غبريال المر في 2002 خانعاً للنظام الأمني السوري اللبناني المشترك.
بين اصرار القاضي البيطار على الاستدعاءات ومتابعة التحقيق الذي قبل حمل كرة ناره للوصول الى حقيقة تفجير 4 آب، وبين صمود رئيس مجلس القضاء وقضاة خيِّرين محترمين رفضوا التهديدات والانصياع والاسفاف في طلبات الرد، وبين خطوة المجلس الدستوري أمس في عدم تلبية رغبات “عصابة الصفقة” التي كانت ستحرم المغتربين ومَن هجَّرتهم سلطة المافيا من التعبير المتساوي مع سائر اللبنانيين في صناديق الاقتراع، يبرز بصيص نور يقول للبنانيين: لا تفقدوا الثقة بكل أهل الدولة بسبب حفنة كبيرة باعت ضميرها واستباحت الوطن وسرقت الكبير والصغير. بذرة الخير التي سقاها أهلٌ وأجدادٌ من عرقهم ودمهم وحبهم لهذه البلاد لا تزال تقاوم مخرز “الكسر والخلع” ورياح التطويع.
أراد جماعة الصفقة تحويل المجلس الدستوري شبيهاً بهم وبطريقة احتقارهم لحسن سير المؤسسات، فلم يُفلحوا. لم يعطل النصاب خلافاً لما ارتكبوه على مدى سنوات، ولم يخرج عن أصول النقاش واحترام المداولات، ولا انقسم طائفياً ومذهبياً حسبما تمنى من خططوا لجريمة الصفقة المتكاملة. توافَقَ “الدستوري” على عدم الاتفاق لكنه لم يرسلنا الى المجهول بل أعادنا الى القانون الموجود الذي أقره مجلس النواب. هذا تصرف مسؤول يصدر عن أرفع هيئة دستورية في الدولة وليس تصرف أهل تسلط وشبق رئاسات ووقاحة ميليشيات. هكذا نريد المؤسسات. متنوعة الانتماءات والاتجاهات، أو مختلفة تحت سقف الدستور والقانون، متضامنة لأجل الحق والخير العام أو لدفع الضرر عن الناس والانتظام العام.
بعض الحياء يا أهل المنظومة والصفقات.