قرارات المجلس الدستوري غير قابلة للطعن. ما إن يصدر القرار بالأغلبية القانونية، حتى يصبح نافذاً، حتى لو أخطأ. هذا ما يؤكده خبراء دستوريون رأوا في القرار الصادر بشأن الطعن المقدم في قانون الشراء العام، تخطياً للدور المنوط به. فهو ذهب إلى تعديل قانون لا يخالف الدستور، لتكون النتيجة إقصاء موظف من وظيفته
عندما أصدر المجلس الدستوري قراره في شأن الطعن الذي قدّمه التيار الوطني الحر في قانون الشراء العام، سارع كثر إلى الاحتفاء به، معتبرين أن المجلس رد الطعن، وكرّس أحد المطالب الإصلاحية التي طال انتظارها. الخبر الأولي الذي نُشر في الوكالة الوطنية، في 16 أيلول الماضي، ربما يوحي بذلك، إذ أشار إلى أن المجلس قرر «إزالة الالتباس من البند «ي» من المادة 78 بتفسيره بأن رئيس مجلس الوزراء يحيل جميع أسماء الناجحين ويقترح المقبولين منهم لكل منصب بحسب ترتيب العلامات»، وإبطال البند الثاني من المادة 88 جزئياً بشطب كلمة «أعضاء» منه وتثبيت الباقي، وردّ الطعن في ما عدا ذلك.
لكن التدقيق في القرار بعد نشره كاملاً يُظهر أن الطعن لم يُردّ فعلاً، لا سيما أن التعديل طال مادة أساسية، أي المادة 88. وإذا كان تعديل المادة 78 قد ثبّت آلية التعيين التي تضمّنها القانون، والتي تُبعد نظرياً، الاستنسابية، فإنه ذهب في المادة الثانية إلى تدبيج صياغة اختلطت فيها الأدوار، بحيث تخطى وظيفة التأكد من دستورية القوانين، إلى الحلول مكان السلطة التشريعية تارة، وتارة أخرى محل السلطة التنفيذية، وصولاً إلى انخراطه في تفسير اللغة العربية بغير ما تحتمله، لتكون النتيجة: إقصاء المدير العام لإدارة المناقصات جان العلية عن رئاسة هيئة الشراء العام التي يُفترض أن تحلّ مع إدارة المناقصات، والاكتفاء بتكليفه التحضير لإنشاء الهيئة، على أن يُزاح من منصبه فور تشكيلها، إلا في حال عيّنه مجلس الوزراء مجدداً.
في النقطة الأولى، ثبّت المجلس آلية التعيين التي أقرت، خاصة لناحية تحرير التعيين قدر الإمكان من استنسابية الوزراء في اقتراح مرشحين للوظيفة العامة، وهي آلية يُفترض أن تتمدّد لتشمل كل التعيينات. لكن «الدستوري» لم يذهب إلى حد التأكيد على عدم جواز استنساب مجلس الوزراء نفسه، بل أكد على ما ذهب إليه المجلس النيابي. فبعد تقديم الطلبات من المتّهمين الذين تنطبق عليهم الشروط المطلوبة، يتم تقييمها من قبل لجنة مؤلفة من رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، رئيس ديوان المحاسبة، رئيس مجلس الخدمة المدنية، ورئيس التفتيش المركزي. وبعد وضع العلامات وفق معدّل عام يتم التوافق عليه، ينتقل المرشحون المقبولون إلى مرحلة المقابلة الشفوية، على أن تعد اللجنة تقريراً بنتائج عملها. عندها فقط، يبدأ دور مجلس الوزراء، حيث يقترح رئيس المجلس أسماء الناجحين في المقابلة الشفوية لكل منصب وفقاً لترتيب العلامات لعرضها على مجلس الوزراء، الذي يعمد إلى اختيار من يعيّنهم. ولإزالة الالتباس، على ما جاء في قرار المجلس الدستوري، تأكيد على وجوب أن يرفع رئيس مجلس الوزراء «جميع» أسماء الناجحين ويقترح المقبولين منهم لكل منصب بحسب ترتيب العلامات.
«الدستوري» يقدم تفسيرين متناقضين لكلمة «يكون»: تدل على المؤقت والدائم معاً!
وفيما وجد نواب في ذلك النص انتصاراً لمبدأ الشفافية وإبعاداً للمحسوبيات، أكدت مصادر دستورية أن هذا الانتصار جزئي، فإذا كان النواب يعتبرون أن ما تحقق لناحية فرض آلية ثابتة للتعيين، تتخطى أهواء الوزراء هو إنجاز بحد ذاته، فإن المصادر تؤكد أن هذه الآلية لم تلغ حق مجلس الوزراء باختيار الأقل كفاءة من بين الناجحين ربما، فهو بحسب الآلية غير مضطر للالتزام بترتيب العلامات أثناء التعيين. ورغم أنه يُنظر إلى هذه الآلية كأضعف الإيمان حتى لا يكون مجلس الوزراء مجرد مصدر لقرار لا رأي له فيه، إلا أن الآلية، بحسب المصدر، تخالف المادتين 12 و95 من الدستور، اللتين تؤكدان على معياري الجدارة والاستحقاق، مع مراعاة التمثيل الطائفي. وبهذا المعنى، إذا كانت المناصفة في الوظائف العامة تكون أحياناً الحجة لتوظيف الأقل كفاءة لأنه الوحيد من طائفته، فإن الآلية الجديدة، ستسمح بعدم اختيار الأكفأ حتى لو كان منافسه من الطائفة نفسها أكفأ منه.
بعيداً عن المادة 78 التي تحتمل التأويل، فإن الإشكالية الفعلية تظهر في المادة 88، التي تُشير إلى «إلغاء إدارة المناقصات ونقل ملاكاتها والعاملين فيها إلى هيئة الشراء العام دون تعديل في الرتبة والراتب». كما تعتبر أن مدير عام المناقصات «يكون رئيساً للهيئة، كما يكون الموظفون والمتعاقدون والأجراء الحاليون في إدارة المناقصات ضمن الهيكل الإداري لهيئة الشراء العام». وبالتالي، فإن افتراض أن هذا النقل هو بمثابة تعيين جديد، بدا في غير محله، بحسب خبير دستوري مطّلع على الملف، انطلاقاً من أن المجلس النيابي لم يعتدِ على صلاحية مجلس الوزراء ولم يُعيّن موظفاً، لكنه فرض أحكاماً انتقالية تُنظّم وجود موظفي إدارة المناقصات ضمن الإطار الجديد لها بمسمى هيئة الشراء العام. علماً أنه لو كان ذلك صحيحاً لكان المجلس أبطل المادة تلك برمّتها، لكنه بدلاً من ذلك ذهب إلى تعديلها، بما يراه هو مناسباً، معتمداً على تفسيره الخاص لكلمة «يكون»، والتي افترض أنها تدل على صفة المؤقت، ليحلل أن المشرّع «استعملها بعناية لهذه الغاية». لكن هذا التفسير لم يشمل أيضاً الموظفين والمتعاقدين، فكان المجلس أمام تفسيرين لكلمة «يكون»: الأول رأى فيه دلالة على الموقت، والثاني اعتبره تأكيداً على الدائم!
اللافت أيضاً أن المجلس يقر في مطالعته بأن المشرّع، طالما لم يخالف الدستور، له بمقتضى صلاحياته الدستورية أن يلغي قانوناً نافذاً أو أن يعدل أحكام هذا القانون. وهو إذ يقرّ بأن القانون المطعون فيه لم يخالف أحكام المادة 65 من الدستور (صلاحية تعيين موظفي الفئة الأولى)، بل نقل صلاحيات إدارة المناقصات إلى هيئة الشراء العام، عاد واعتبر أن ما يثير الجدل هو إيلاء رئاسة الهيئة إلى مدير عام المناقصات.
ولذلك، ناقض نفسه مجدداً، مفترضاً أن التعيين يجب أن يشمل الرئيس أيضاًَ، فقرر أولاً «تحصين» البند الثاني من المادة 88 بحذف «كلمة» أعضاء من العبارة التي تشير إلى أنه «إلى حين تعيين أعضاء الهيئة يتولى رئيس الهيئة مهامها». ما يعني تلقائياً أن رئيس الهيئة يصبح بلا مهام بمجرد تعيينها، فيما كان المشرع قد أشار، بحسب النقاشات التي جرت في اللجان، إلى أن يتولى رئيس إدارة المناقصات رئاسة الهيئة للولاية الأولى (بسبب تطبيق قانون الهيئة)، انطلاقاً من حقه المكتسب بترؤس هيئة حلّت بدلاً من الإدارة التي يرأسها، فيما التعديل جاء بمثابة التعديل للتشريع وليس تحصيناً له كما ورد في قرار الدستوري. وتلقائياً انطوى القرار، ليس على لعب المجلس الدستوري دوراً تشريعياً فحسب، بل أيضاً الحلول محل مجلس الوزراء، وإقرار صرف موظف عمومي. إذ بعد إنجازه التحضيرات اللازمة لإنشاء الهيئة، يصبح رئيس إدارة المناقصات، بموجب التعديل الذي أفتى به المجلس الدستوري، عاطلاً عن العمل، أو بشكل أدق موضوعاً في التصرف. لكن الأخطر من ذلك، بحسب ما يتخوف نواب عملوا على إعداد القانون، هو عدم تطبيق القانون بالمطلق، وتحوّل الفترة الموقتة، أو الانتقالية، إلى دائمة، فتكون النتيجة استمرار رئيس إدارة المناقصات بتولي مهام الهيئة، من دون أن يكون رئيسها، ومن دون تعيين أعضائها.