لا يبدو بريئاً إصرار بعض الأطراف على تغييب المؤسسات الدستورية عن الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بأسوأ أزمة عرفها لبنان في تاريخه. إذ ليس من المنطقي أن تتغاضى تلك القوى عن ضراوة المأزق المعيشي الذي يصيب جماهيرها كما يصيب سائر مكوّنات الجمهور اللبناني العريض، إلا إذا كانت مستفيدة فعلاً من الواقع القائم وتسعى لاستدامته، أو أنّها تنفّذ مصالح معيّنة لا تتلاءم مع الوضع اللبناني الراهن بكلّ تعقيداته وإشكالياته.
من الواضح أن السلوك السياسي لتلك القوى، التي لا يمكن إعتبار تحالفها مجرّد صدفة، إنّما لا يكترث فعلاً إلى الإنقاذ وإلى إخراج البلاد من عنق الزجاجة، وقد ثبُت ذلك بالبراهين السياسية التي تُقدّمها بصورة شبه يومية، تارةً من خلال التعطيل المؤسساتي المتعمّد، وتارةً أخرى من خلال إتخاذ قراراتٍ كبيرة تؤكد سياسة تهميش الدولة وإعتبارها وكأنّها غير موجودة تماماً.
كان حريّاً بتلك الأطراف السياسية أن تضغط في إتجاه أن تقوم الدولة بواجباتها في المحروقات والأدوية والغذاء والعملة وسواها من المجالات التي تشهد إنهياراتٍ يومية، بدل أن تقوم بخطواتٍ آحادية موازية لعمل الدولة. وكان حريّاً بالقوى الأخرى المتحالفة معها ألا تواصل سياسة التعطيل المنهجي وتكريس الأعراف الجديدة البعيدة تماماً من الدستور والأصول والمواثيق.
إن هذه السلوكيات وتلك، على حدٍّ سواء، لا تعدو كونها خطوات جهنّمية تُعلي المصالح الفئوية الخاصة على مصلحة اللبنانيين الجماعية، وإلا ما الذي يُفسّر إبقاء البلاد التي تتعرّض لاهتزازاتٍ بنيوية خطيرة وغير مسبوقة بدون حكومة فاعلة تقود عملية النهوض والإنقاذ لأكثر من سنة كاملة؟
كيف يمكن تفسير هذا الأداء السياسي الرخيص سوى أنه أداء لا يمتّ إلى الأخلاق بصلة؟ كم هي رخيصة أرواح المواطنين لدى هؤلاء. كيف لا يكترثون إلى مشهد طوابير الذلّ على محطات المحروقات التي تستنزف وقت المواطنين وأعصابهم وقدرتهم على الإحتمال؟ هذا المشهد بحدّ ذاته كفيلٌ بهزّ عروش وإسقاط رؤساء وإخلاء مناصب، ولكن ليس في لبنان حيث تغيب المساءلة وتضيع المحاسبة.
ليس الشحّ في المحروقات أمراً تفصيلياً في الواقع الاقتصادي اللبناني، وليست الاقتراحات الموازية التي يتمّ التحدث عنها والتلويح بها هي الحل. المخرج من هذه القضية المعقّدة يبدأ من الإجراءات الحاسمة في وقف التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية التي إتخذ فيها المجلس الأعلى للدفاع قراراتٍ تلو القرارات من دون أن تشق طريقها إلى التنفيذ.
كما أن مشكلة المحروقات كشفت الذهنية النفعية والمركنتيلية الجشعة عند شرائح مختلفة من الشعب اللبناني، وتلك الشرائح لا همّ لها سوى تحقيق الربح التجاري الصافي، بمعزل عن شقاء المواطنين الذين تآكلت مداخيلهم بفعل تدهور سعر صرف العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية، وأصبح أكثر من خمسين بالمئة منهم تحت خط الفقر وفق تقييم الهيئات الدولية.
إنّ المفاعيل السلبية العميقة لإنهيار الطبقة الوسطى لا تظهر بصورةٍ فورية وأوتوماتيكية، بل إنها تتبلور تدريجياً لتُظهر مكامن إختلال جديدة في المجتمع، تعكس نفسها في سقوط منظومة متكاملة من القيم التي ترتكز إليها فئات المجتمع المختلفة وتنمو على أساسها الأجيال القادمة التي قد يصبح تجاوز القوانين عندها مسألة عادية وشبه طبيعية.
معادلة الثراء الفاحش مقابل الفقر المدقع ولّادة مشاكل يومية قابلة للانتشار في المناطق المختلفة، وقد تخرج عن السيطرة بشكلٍ ينذر بعواقب وخيمة على مختلف المستويات.
لم يفت أوان الإنقاذ رغم تراكم المصاعب والمشاكل من كل حدب وصوب. ولكن غياب الإرادة السياسية كفيل بتحقيق المزيد من التدهور… ولن يرفّ لبعضهم جفن!