IMLebanon

عقم الطبقة السياسية يُعطِّل المؤسسات الدستورية ويدمر مقوِّمات النهوض بالدولة

 

 

أقلُّ ما يُقالُ في هذه الطَّبقةِ السِّياسيَّةِ أنها عقيمة، ومن لا يُعجبُه هذا التَّوصيفُ فليتفضَّلَ ويُعطينا توصيفاً آخرَ أكثرَ ملاءمَةٍ لِطَبقَةٍ يتَكرَّرُ عَجزُها في الملمَّات، بحيثُ أنه في كُلِّ مرَّةٍ يستوجِبُ فيها انتِخابُ رَئيسٍ للجُمهورِيَّةِ في الفَترةِ الزَّمنيَّةِ المُحدَّدةِ في الدُّستور، نراها تتعمَّدُ تأخيرَ إنجازِ الاستِحقاقِ لأشهرٍ وأحياناً لسَنوات. كما اعتادَت على عَرقَلَةِ تَشكيلِ الحُكوماتِ لأشهُرٍ وسَنوات أيضاً. توصيفٌ يصُحُّ في طَبَقَةٍ سياسيَّةٍ حاكِمةٍ منذ ثلاثةِ عقودٍ، مشاريعُ واقتراحاتُ القوانينِ فيها مرميَّةً في أدراجِ مَجلِسِ النُّواب والوزراء، طَبقةٌ سياسيَّةٌ تُكرِّسُ اهتِمامَاتها لدِراسَةِ كيفيَّةِ إدارَةِ الفَراغاتِ في المؤسَّساتِ الدُّستوريَّةِ بدلاً من مَلءِ الشُّغورِ، وتَسعى إلى التَّمديدِ للمُوَظَّفينَ بعدَ إحالتِهم على التَّقاعُدِ بدلاً تعيين بدَلاً عنهم… الخ.

بماذا يُمكنُ توصيفُ مَسؤولين دأبوا على تعطيلِ الدُّستورِ والقوانين والنُّصوصِ النَّافِذَة، ورَفضوا تَطبيقَها إلاَّ وفق ما يتناسَبُ مع مَصالِحِهم ورَغباتِهم، ويوعِزونَ إلى أتباعِهِم من وزراءَ ونُوَّابَ وموظَّفينَ الاحتكامَ لتَوجيهاتِ من يَعتبرونَهم مَرجَعِيَّاتٍ سِياسِيَّةٍ مؤلَّهةٍ أو معصومةٍ، بعدمِ المُوافَقَةِ أو الإمتِناعِ عن التَّوقيعِ على قوانين ومَراسيمَ لا لِعَدَم دُستورِيَّتِها أو قانونيَّتها إنما ابتزازاً لأفرقاءَ سياسيين آخرين أو ابتغاءً لمصالِحَ فئويَّةٍ أو شَخصِيَّة، وبماذا نوصِّفُ وزراءَ يَقِفونَ مَوقِفَ المُتفرِّجِ تجاهَ كل الأزماتِ الحالَّةِ بالوَطَنِ والشَّعب، ولا يُحَرِّكونَ ساكِنا مَخافَةَ أن يَقعوا بخَطأ قد يُغضِبُ مَرجعيَّاتِهِم أو أيِّ من المَرجَعِيَّاتِ الأُخرى النَّافذة، كي لا ينعكسُ ذلك سلباً على احتمالِ استِمرارِهِم في مواقِعِهم، وبماذا نوَصِّف مُدراءَ عامون ومُدراءَ ورؤساءَ مَصالِحَ ورؤساء دوائرَ يُكرِّسونَ اهتِماماتَهم ونشاطاتَهم خِدمَةً للزَّعيمِ الذي أخَصَّهم بالمَركَزِ رَغم أن الإداراتِ والمؤسَّساتِ العامَّةِ ومَرافِقِ الدَّولةِ شبه مُعطَّلة.

بماذا يُمكِنُنا أن نوصِّفَ طبقةً سِياسِيَّةً دأبت على تَفصيلِ قوانينِ الانتِخاباتِ والقوانين التَّنظيميَّةِ على مَقاسِها تمهيداً لتكريسِ منهجيَّةِ التَّوارثِ السِّياسي، وحرَّفت القوانين الخاصَّةِ بمُكافَحَةِ الفَسادِ كي لا تَطالها، وتُعطِّلُ عمليَّةَ إقرارِ قانون للتَّحكُّمِ بحركةِ رؤوسِ الأموالِ خِشيةً على الأموالِ التي هرَّبَها بعضُها للخارِجِ، وتسعى للحؤولِ دون تشكيلِ لجانِ تحقيقٍ برلمانيَّةٍ أو قضائيَّةٍ لتقصي الحقائقِ وكَشفِ الانتِهاكاتِ الماليَّةِ والسِّياسِيَّة، وتَعَطّيلِ التَّحقيقاتِ العدلِيَّةِ في جرائمَ يندى لها الجبينُ، وهزَّت الضَّمائرَ على المُستوى الدَّولي والمَحلي، من ذلك: اغتيالاتٌ سِياسيَّةٌ، طاولت قاماتٍ وطنيَّةٍ سِياسِيَّةٍ وأمنيَّةٍ مَرموقَة، وإن كنا ننسى فلا ننسى تَفجيرَ مَرفأ بيروت الذي أودى بحياةِ المئاتِ من الأبرياءِ وإصابةِ الآلافِ منهم، وهدمت نصفَ العاصِمة، وكذا تَفريطُها في الأملاكِ العامَّةِ وتبذيرُ ماليَّةِ الدَّولةِ وتبديدُ إيداعاتِ المواطنين، وتسبُّبُها بانهيارِ القِطاعِ المَصرِفي وتهاوي القِيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعِملَةِ الوَطنِيَّةِ إلى مُستوياتٍ قِياسِيَّةٍ مُخيفَة، وما فتئت تَعملُ كُلُّ جِهَةٍ منها على توفيرِ الحِمايَةِ السِّياسِيَّةِ لأزلامِها المُرتكبين لشَتى أنواعِ الإجرام.

ماذا نقولُ عن طَبَقَةِ سِياسِيَّةٍ دأبَت على اعتِمادِ مَنهجِ البيعِ والشِّراءِ في مواقِفِها السِّياسيَّة!!! هذا ما حَصَلَ عندَما كان يحِلُّ استحقاقِ انتخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّة، تعطيلٌ مكرَّرٌ، أولُ بوادرِهِ كان الشُّغورُ الذي حصلَ عند انتهاءِ ولايَةِ الرئيس أمين الجُميِّل عام 1988، والذي دامَ قُرابَةَ العام وشهر ونصف الشَّهر وتَطلَّبَ انهاؤه عقد مؤتَمرِ الطائف برِعايَةٍ عربيَّةٍ ودوليَّة، وانتهى بانتخاب الرئيس ميشال معوَّض عام 1991، والثاني عند انتهاءِ ولايَةِ الرَّئيَسِ إميل لحود عام 2007 ودام قرابةَ الستَّةِ أشهر، وتطلَّبَ إنتهاؤه اتفاقاً تمَّ في الدَّوحةِ برعاية إقليميَّةٍ – عربيَّة وانتهى بانتخاب ميشال سليمان عام 2008، والثالثُ، وهو الأطولَ لغايَةِ الآن، كان بعدَ انتِهاءِ ولايَةِ الرئيس ميشال سُلَيمان عام 2014، ودامَ قُرابَةَ العامين وخمسَةِ أشهُر، تَحكَّمَت بها لُعبَةَ عَضِّ أصابعِ سِياسِيَّةٍ، انهارَ بصَدَدِها أحدُ الأطرافِ وأذعنَ لمَشيئةِ الطَّرفِ الآخَرِ تحتَ ضغطِ إغراءاتٍ ووعودٍ، تقومُ على تقاسُمِ الحًصِ والمَغانِم، وانتهى بالاتِّفاقِ على انتِخابِ الرَّئيسِ ميشال عون عام 2016، والتَّعطيلُ الحالي علمنا ببدايتِه ولا أحدَ يعلمُ متى مُنتهاه، والذي نتمنى ألاَّ تطول مدَّته لكون وضعُ البلد لم يعد يَحتَمِلُ الفَراغَ الرِّئاسي.

السِّياقُ التَّعطيلي والابتزاز السِّياسي لا يقتصرُ على انتِخابِ الرؤساءِ وتشكيلِ الحُكومات، إذ يطاولُ إقرار القوانين والمراسيمِ، مثالُ ذلك: لم يَمُرَّ تَعديلُ قانونِ الانتِخاباتِ النيابيَّةِ الحالي لو لم تُستغلُّ حالةُ إفلاسِ سِياسيِ ومالي لأحدِ الأقطابِ السياسيين، وجاءَ الحلُّ على حِسابِ الطائفِ والوَطَن، وكذلك تشكيلُ الوزاراتِ وتَعيينُ الوزراءِ لا يَحصَلُ إلاَّ بموجبِ صَفقاتٍ مالِيَّة أو مَصلحيَّةٍ فئويَّة، وعلى غرارِ ذلكَ يتِمُّ ضَّمُّ المُرشَّحين للنِّيابَةِ إلى اللوائحِ، إذ لا تحصَلَ إلاَّ بعد مُساوماتٍ مالِيَّة، وتَعيينُ مُدراءَ عامِّينَ يَتطلَّبُ إعلانَ الطَّاعَةِ المُطلقَةِ مُسبقاً لِعَرَّابِ الطَّائفَةِ أو المَذهب، وصِياغَةُ العديدِ من الأحكامِ القَضائيَّةِ تَتَوقَّفُ على وَعدٍ بالتَّوزيرِ أو بالتَّعيينِ في مَنصِبٍ مَرموق، وقُبولُ بعضٍ من تلامِذةِ الضُّبَّاطِ كان يتوقَّفُ على دَفعِ رَشاوى بمئاتِ آلافِ الدُّولارات، وإنجازُ المُعامَلاتِ مَرهونٌ بتَغذيَةِ جَيبِ موظَّفٍ من هنا وآخرٍ من هناك، وتمريرُ مخالَفَةٍ يَستوجِبُ هَديَّةً مَعدنيَّةً لمَّاعَة، أما الاستِحصالُ على رقمِ لوحَةِ سيَّارةٍ مُميَّزٍ فكانَ يتوقَّفُ على هَدِيَّةٍ نَوعِيَّة؛ وقياسَاً على هذا المِنوالِ تُسيَّرُ الأمورُ في مُختلِفِ دوائرِ الدَّولَةِ ومَصالِحِها المُستَقِلَّةِ والمُشترَكَة.

بربِّكم ما هو التَّصيفُ الأمثلُ لطَبَقةٍ سِياسِيَّةٍ مُتحكِّمَةٌ بالحياةِ السِّياسيَّةِ في لبنان منذُ عقودٍ، دأبت على تأجيجِ الحربٍ الأهليَّةٍ طوالَ فَترَةٍ زَمنِيَّةٍ ناهَزَت الخَمسَةَ عَشَرَ عاماً، وقَرصَنَت المَرافِقَ العامَّةِ ووضعَت يدها على أملاكِ الدَّولةِ البَحرِيَّة وفرَضتِ الأتاوات، ولم تَجنحْ للسِّلمِ لو لم يَتكرَّم بعضُ كِبارِ العَربِ بالمونةِ عليهم بإنهاءِ حالةِ الحربِ ووَقفِ التَّقاتُلِ بينَ أبناءِ البلدِ الواحِد، وسهَّلوا إعدادَ اتِّفاقِ الطَّائفِ الذي يُحاولُ البَعضُ تحميلَهُ وزرَ إخفاقاتِ من تعاقبوا على الحياةِ السِّياسِيَّةِ في لبنان، والمُتوارِثين للسُّلطَةِ والمناصِبِ أباً عن جد.

نقولُ لمن يجهلَ أهميَّةَ اتِّفاقِ الطَّائفِ أنه خيرٌ من كُلِّ ما تَمَخَّضَت عنه أريحةُ سياسيينا، يكفيهِ شَرَفاً أنه نَجحَ في وقفِ آلاتِ الحربِ الأهليَّةِ المَقيتةِ ودوَّاماتِ التَّقاتُلِ بين الأحياءِ المُتجاورَة، وحَملاتِ التَّهجيرِ والتَّهجيرِ المُقابلِ من القِرى والدَّساكِرِ والأحياءِ السَّكنيَّةِ المُتداخلة، وأوقفَ مُسلسَلِ القَتلِ على الهويَّة. اتِّفاقُ الطَّائفِ حالَ دونِ التَّفرُّدِ الأحاديِّ بالسُّلطةِ في مجتمعٍ متنوِّع، وكرَّسَ مبادئَ دستوريَّةٍ عَصريَّةٍ تتناسَبُ مع واقِعنا الجيو-طائفي وتنوعِ الانتماءاتِ المَذهبيَّة. العيبُ ليسَ في الدُّستورِ فثمةَ دولٌ عريقةُ يقومُ نِظامُ الحُكمِ فيها على أعر افٍ، وتُعتبرُ مثالاً في الممارسةِ الديمقراطيَّة؛ العيبُ في سياسيينا الذين يمعنون في تَعطيلِ الدستورِ وتَشويهِ تَطبيقِهِ على نحوٍ مُخالِفٍ لروحِيَّتِهِ ولمَقاصِدِ نُصوصِه، لقد نصَّ دستورُ الطائفِ، شبهُ المُعلَّقِ، على إصلاحاتٍ أساسيَّةٍ وبنيويَّةٍ تمنَّعوا عن السَّيرِ بها، إذ أكَّدَ على إلغاءِ الطَّائفيَّةِ السِّياسِيَّةِ والوظيفيَّةِ فكرّسوها، ونصَّ على الفَصلِ بينَ السُّلُطاتِ فعملوا على الخَلطِ في ما بينها وتداخُلِ صَلاحِيَّاتِها، وأرسى مُقوماتِ التَّوازُنِ بينَ السُّلطاتِ ولكنهم عَملوا على الإخلالِ بمُرتكزاتِ التَّوازُنِ بتغليبِ بعضِ السُّلطاتِ على بعضِها الآخر، وكرَّسَ مبدأ التَّعاونِ في ما بينها فحَوَّلوها شَراكَةً حلبِيَّةً ثلاثيَّةً (ترويكا) برعايَةٍ دِمشقيَّة، وغالوا في تشويهِ مفاهيمِ المبادئ الديمقراطِيَّة.

ما حاجتُنا لرَئيسٍ للجُمهورِيَّةِ؟ ما لم يكن جديراً بترؤسِ جهازيَّةِ كافَّةِ سُلُطاتِ الدَّولة، ومُهيَّأ ليكونَ رَمزاً لوحدةِ الوطن، وصالِحاً لِضمانِ احترامِ الدُّستور، وموثوقاً به في مُحافظتِهِ على استِقلالِ الدَّولة وسيادَتِها على إقليمِها، وأهلاً للائتمانِ على وحدةِ الوطنِ وسلامةِ أراضيه، وقادراً على لَمِّ شَملِ كافَّةِ المُكوِّناتِ الوَطنِيَّةِ وبناءِ الإلفَةِ بين أبناءِ الوطن الواحد، وما حاجتُنا لمجلِسٍ للوزراءِ ما لم يكن قادِراً على بلورَةِ رَؤيَةٍ إنقاذِيَّةٍ للنٌّهوضِ بالوَطن سياسيَّاً واقتصادياً وماليَّاً وتربويَّاً واجتماعيَّا وثقافيَّاً… الخ وبما يَضمَنَ ازدِهارَهُ ورُقِيَّه، وما حاجَتُنا لحُكومَةٍ تَعجَزُ عن إعدادِ مُوازَنَةٍ سَنَوِيَّةِ في المَوعِدِ المُحدَّدِ وحِسابِ خِتاني في أوانِه، وما حاجَتُنا لِمَجلِسٍ نُوابٍ غير قادِرٍ على انتِخابِ رئيسٍ للجُمهورِيَّةِ ولا على سَنِّ قوانينٍ عَصرِيَّة، وعاجزٍ عن مُناقَشَةِ الموازَناتِ السَّنويَّةَّ والتَّصويتِ على قَطعِ الحِسابِ ومُراقَبَةِ أداءِ الحُكوماتِ المُتعاقِبَةِ، وما حاجتُنا لنُوَّابٍ لا يُدلونَ بصوتِهم إلاَّ وفقَ إملاءاتِ أوليَ الأمرِ لديهم، وأشبهُ بشُهِودٍ صمٌّ بكمٌ يتعامونَ عن الانهياراتِ المُتلاحِقة، وما حاجتُنا لقضاءٍ مُعطَّلٍ أو مُتلهٍ بصَغائرِ الجَرائمٍ مُتغاضٍ عن كَبائرِها وغافلٍ عن مُلاحَقَةِ كِبارِ المُجرِمين، وما حاجَتُنا لجَيشٍ مُعَطَّلٍ عن القِيامِ بواجِبِهِ الدِّفاعي، وقِوى أمنِيَّةٍ خائرَةِ القِوى لا تَقوى على مُلاحَقَةِ المُجرمين الخَطرينَ وممنوعٌ عليها الدُّخولِ إلى الكثيرِ من المُخيَّماتِ والمُربَّعاتِ الأمنيَّة، وغير قادِرَةٍ على حِمايَةِ الأملاكِ العامَّةِ والمُمتلكاتِ الخاصَّة.

وأخيراً نسألُ علّنا نلقى جواباً شافيا، عن مبَرِّرِ وجودِ دولةٍ اعتَدنا فيها على الاستِعانةِ بأصدقاءَ خارجيينَ لحلِّ مَشاكِلِنا السِّياسيَّةِ والماليَّة، بتَسوُّلِ المُساعداتِ من الدُّولِ الشَّقيقةِ والصَّديقة، وبالاقتِراضِ من المؤسَّساتِ الدَّوليَّةِ لسدِّ احتياجاتِنا المَعيشِيَّة، وكذلكَ الاستِعانَةُ بمُصلِحين عَرَب وأجانِبَ لتَقريبِ وُجُهاتِ النَّظرِ في ما بين أبناءِ الوطنِ الواحِدِ غيرِ المُوَحَّد؛ والمستغربُ إمعانُ مَجلِسنا النِّيابي الكريمِ في زيادَةِ الأعباءِ الضَّريبيَّةِ على الفُقراءِ والمَساكين لتمويلِ صَفقاتِ الأثرِياء والمُقاولين، والأغربُ من المُستغربِ اكتِفاءُ حُكوماتُنا المُتعاقِبَةُ بالتَّفرُّجِ على الشَّعبِ يَتخَبَّطُ في الأزماتِ التي تَسبَّبت بها سياساتُها الخاطئة، من دون تَقديمِ أيَّةِ خَدماتٍ عامَّةٍ تُذكر. وهل تُعتَبرُ دولتُنا دولةً بالفِعلِ فيما لو بقيت عاجِزَةً عن تحقيقِ ما يميِّزُ المجتمعاتِ البشريَّةِ عن شريعةِ الغاب أي العدلُ والأمنُ والأمانُ والعيشُ باطمئنانٍ وراحَةِ بال؟؟؟

أجدُني مُضطرَّاً للقولِ: أنه في ظِلِّ كُلِّ هذا التَّعطيل، والتَّخبُّطِ السِّياسِي والانهيارِ الاقتصادي ونُدرَةِ الأموالِ وتهاوي قيمةِ النَّقد الوطني والانحطاطِ في مستوى التعليمِ، والتَّفكُّكِ الاجتماعي والانحطاطِ الثقافي والانهيارِ في الأدبيَّاتِ السياسيَّة… الخ أدعو صادِقاً لإعادَةِ النَّظرِ بمدى حاجتِنا لدولةٍ كدولتنا ومجلسٍ تشريعي كمجلِسِ نوابنا، وحكومةٍ كحكوماتنا المُتعاقِبَة، ربَّما يُفضِّلُ الكثيرُ منا العيشَ في ظِلِّ وطنٍ لا دولة، وطنٌ تَسودُ فيه المفاهيمِ والقِيَمِ القبَليَّةِ والعشائريَّة، باعتبارِها أرحَمُ من العَيشِ في دَولَةٍ صُوَرِيَّةٍ، تَسودُ فيها شُرعَةُ الغابِ على أيدٍ بَشَرِيَّةٍ وعُقولٍ آثمةٍ تتحكَّمُ بها نزعاتٌ غرائزيَّةُ، ويأكل فيها القويُّ الضَّعيفَ مُتسلِّحاً بقوانينَ تُشرِّعُ الظُّلمَ وتُبرِّئُ كِبارَ المُجرِمين، ويُحبَسُ فيها أبرياءٌ على الشُّبهَةِ لِعشَراتِ السِّنين.

وأختُمُ معرباً عن اعتِذاري من كُلِّ الشُّرَفاءِ الذين ما زالوا يُؤمِنون بأن الفُرَصَ لا تزالُ سانِحَةً لقِيامِ الدَّولَةِ وأنا منهم، على كُلِّ ما أوردتُ من حقائقَ مؤلِمَة.