لم تمحُ الجلسة التشريعية التي عقدها مجلس النواب بالأمس وانتهت بإقرار البند المتعلق بتمويل أجور القطاع العام التداعيات السلبية العميقة – التي أحدثتها الجلسة الأخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية – على ما تبقى من مؤسسات دستورية وعلى إمكانية استعادة الثقة بالقيمين على السلطة. إن المجلس النيابي الذي فشل في انتخاب الرئيس، والذي توزعت أصوات كتله النيابية على مرشح حزب الله سليمان فرنجية ومرشح المعارضة جهاد أزعور، وآثرت كتل أخرى تجنب الذهاب نحو سيناريوهات الفوضى فإقترعت لعناوين وشخصيات من خارج السباق، لم يكن بمستوى الواجب الدستوري الأسمى ولم يمتلك الشجاعة لممارسة الديمقراطية وتحمل مسؤولية خياراته. وليس تشريع فتح إعتمادات لتمويل الأجور سوى هروب الى الأمام لن يفضي لاستعادة ثقة بددتها سياسات رعناء وفساد يعشعش في بيوت السياسة ويملأ عبقه أرجاء الجمهورية.
ما جرى في الجلسة العصماء بكافة تجلياتها من خروج مجموعة « التعطيل حق دستوري» من القاعة مروراً بالصوت الضائع الذي «لا يقدم ولا يؤخر» وانتهاءً بإعلانها جلسة ختامية لمسلسل رئاسي، لم تنتهِ مفاعيله بتلاوة محضر الجلسة، بل طالت كل الحراك الدبلوماسي الذي تقوده المملكة العربية السعودية مع فرنسا وطهران والذي علق اللبنانيون عليه آمالاً كبيرة لإعادة لبنان الى دائرة الإهتمام.
أجل لقد خلت كل البيانات الصادرة من باريس إثر لقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، كما خلت الإتصالات بين طهران والرياض على مستوى وزراء الخارجية من أي إشارة لخطوة حقيقية نحو لبنان. إن ما جرى في الرابع عشر من الشهر الحالي قد وضع كل المتدخلين الإقليميين والدوليين بالشأن اللبناني أمام إشكالية حقيقية تكمن في استحالة إنقاذ دولة اتّخذ القيّمون عليها قراراً بنحرها، وهذا ما سيترتب عليه تمديداً مفتوحاً للشغور الرئاسي وتعليقاً للبحث في كل ما يتعلق بلبنان إلى أجل غير مسمّى. وقد تصبح الزيارة المرتقبة للموفد الفرنسي جان إيف لودريان بداية لمشهد متكرر تعهدته فرنسا لملء الوقت الضائع بالتزامن مع معزوفة الحوار الداخلي الذي يفتقر المدعوون له لأية قواسم مشتركة إلا البحث عن شخصية هلامية اتُّفق على تسميتها بـ» الرئيس التوافقي»
وفي مفارقة لافتة أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الإتّحاد الأوروبي جوزيب بوريل الأول من أمس تأجيل الإجتماع الوزاري الأوروبي العربي السادس الذي كان مقرراً عقده خلال الأسبوع الجاري، بسبب عودة سوريا للجامعة العربية التي يعارضها الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقال بوريل في مؤتمر صحفي بالقاهرة مع الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، أن استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية هو قرار سيادي، لكنه أوضح أن هذه الخطوة تمت رغم أن دمشق لم تبذل جهدا لحل النزاع في سوريا، وأضاف بوريل إن موقف الإتحاد الأوروبي لن يتغير إلا إذا حققت دمشق تقدماً في تطبيق قرارات الأمم المتحدة، لا سيما قرار مجلس الأمن 2554/2015 الذي تضمن إطاراً للتسوية السلمية للأزمة السورية. وبالتوازي مع الإتحاد الأوروبي، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن موقف بلاده من نظام الأسد لا يزال ثابتاً، معتبراً أن عودة سوريا للجامعة العربية غير مستحقة.
يأخذنا التلازم بين السلوك السياسي اللبناني الذي وضع لبنان خارج المشهد الإقليمي الجديد وبين القرار الأميركي الأوروبي بتعليق الإجتماعات مع الجامعة العربية لعدم التزام سوريا بالقرار 2254 الى استعادة لشعار «وحدة المسارين» الذي طالما دأب اللبنانيون على تكراره بالرغم من افتقاره لأي مضمون سوى الشعور بالتبعية السياسية والأمنية لدمشق. أجل التقى المساران ثانية ولكن لصالح طهران هذه المرة. وفي هذا السياق تتبلور أكثر فأكثر ماهية الأهداف من تغييب السلطة الوطنية في كل من لبنان وسوريا، ويصبح التساؤل المقلق مشروعاً حيال تلازم مصير منطقتيّ النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا وارتباطهما بالتسوية النهائية التي لم تتبين معالمها بعد، ويصبح فهم غياب القضية اللبنانية عن كل المنتديات الدبلوماسية الدولية والإقليمية متاحاً. فإذا كان اللبنانيون الذين طالما انتظروا حدثاً رائعاً أو ثورة لا زالوا عاجزين حتى الآن عن بناء الدولة فهم قادرون الآن حكماً على فهم أسباب غيابها.