من مقدمة الدستور العراقي: «نحن شعب العراق الذي آلى على نفسه بكل مكوناته وأطيافه أن يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه، وأن يتعظ لغده بأمسه، وأن يسنَّ من منظومة القيم والمثل العليا لرسالات ومن مستجدات علم وحضارة الإنسان هذا الدستور الدائم. إنَّ الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادة». ومن الباب الأول في الدستور هذه الفقرة: «جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديموقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق».
ليس خافياً على أي عراقي أن الدستور الذي ينص في ديباجته وفي بابه الأول على وحدة البلاد، وخلوّه من تحديد هويته العربية، كان بناء على ضغط الزعماء الأكراد والحاكم «المدني» الأميركي بول بريمر الذي عُرف الدستور باسمه. لكن هذا التشديد على الوحدة «أرضاً وشعباً» لم يكن في يوم من الأيام محل احترام الزعماء الأكراد، فقد اتخذوا إجراءات كثيرة تحول دون دخول العراقيين إلى إقليمهم، و «كردوا» مناطق كثيرة في الشمال، خصوصاً في كركوك بحجة تعريبها أيام صدام حسين، وتصرفوا كدولة مستقلة في علاقاتهم الديبلوماسية مع الخارج، فلديهم ممثلون في كل السفارات، ولديهم جيشهم الخاص (البيشمركة) الخاضع لرئاسة إقليمهم، في مخالفة صريحة للقانون الذي يعتبر هذا الجيش جزءاً من المنظومة الدفاعية الخاضعة لقيادة رئيس الوزراء، حتى أنهم يقيمون علاقات مع إسرائيل غير خافية على أحد.
ما زال الأكراد، على رغم مرور 14 عاماً على مشاركتهم في حكم العراق بصفتهم القومية، يتصرفون كأنهم ميليشيات، يلجأون إلى أي جهة إقليمية أو دولية للاستقواء بها على بغداد، خصوصاً إذا كانت معادية للعرب. وهذا سلوك بقية الأطراف، قبل الاحتلال الأميركي وبعده أيضاً. في عهد النظام السابق كان الأكراد يسعون إلى الانفصال بقوة السلاح والتمرد على بغداد، بدعم من إيران الشاه الذي اتفق مع صدام حسين (كان نائباً للرئيس) عام 1975، بوساطة من الرئيس الجزائري هواري بومدين، على عدم إمدادهم بالسلاح مقابل ترسيم الحدود النهرية لمصلحة طهران. تماماً مثلما لجأ الشيعة إلى إيران الخميني للوصول إلى الحكم، وما زالوا يحكمون، مع الآخرين بتوافق بين زعماء ميليشيات تشهر سلاحها في وجه السلطة لتحصيل مكاسب أكثر على حساب الدولة التي تحولت إلى مصدر للارتزاق، وإلى مؤسسات يعمّها الفساد من أعلى الهرم إلى قاعدته الواسعة.
يقول مسعود بارزاني الذي حدد 25 أيلول (سبتمبر) المقبل موعداً للاستفتاء على الانفصال عن العراق إن خطوته تنسجم مع القانون الدولي الذي ينص على حق الشعوب في تقرير مستقبلها. لكن المنطق يؤكد أنه وزعماء بقية القبائل الكردية مارسوا هذا الحق عندما ارتضوا الدستور وشاركوا في صوغه، فماذا حصل كي ينقلب عليه؟
واقع الأمر أن التحالف الحاكم في بغداد بدأ يتفكك فور هزيمة الجيش الذي بناه الأميركيون في الموصل عام 2014، لدى مواجهته «داعش» وبعد استقواء الميليشيات، بما فيها «البيشمركة»، على الدولة وتشكيل جيوش طائفية خاصة، وسيطرة القوات الكردية على «مناطق متنازع عليها». كل هذا دفع بارزاني إلى القول إنه لن ينسحب من هذه المناطق التي «حررها بالدماء»، وإنه على استعداد لإجراء مفاوضات مع بغداد تضمن له ضمها إلى الإقليم المستقل فعلاً.
سينفذ بارزاني وعده بالاستفتاء على الانفصال عن العراق، وسيفوز ويحظى بشعبية واسعة في إقليم كردستان ويعزز موقعه في مواجهة زعماء القبائل الكردية، وفي مواجهة الحكم في بغداد. لكن هل يقدم على إعلان الانفصال فعلاً وتشكيل دولة كردية؟ وهل تقف إيران وتركيا متفرجتين على الخطر الذي يهدد وحدتهما؟ أم يكتفي الزعيم الكردي باستخدام الاستفتاء للحصول على مكاسب أكثر من بغداد؟
التحالفات الإقليمية والدولية لا تحمي وحدة العراق. أما التحالفات المحلية فمجرد شكليات لا تقيم وزناً للاتفاقات، مكتوبة كانت أو غير مكتوبة.
الدساتير لا تليق بالميليشيات.