المادة 69 من الدستور تحصر عمل حكومة تصريف الأعمال بالشؤون الإدارية الضيقة
مشاورات بعبدا – عين التينة – دار الفتوى فرملت ارتدادات استقالة الحريري
لا مهلة ملزمة أو مقيدة لرئيس الجمهورية لقبول الإستقالة
من نافل القول أن لبنان قد دخل مرحلة سياسية جديدة وشديدة التعقيد في ضوء استقالة الرئيس سعد الحريري، كون أن هذه الاستقالة لم تأت في ظروف طبيعية، وهي فاجأت مختلف القوى السياسية بشكلها وتوقيتها.
وبغض النظر عن الطريقة الدستورية التي سيتم التعامل بها من قبل رئاسة الجمهورية، فإن البلد على مستوى المؤسسات لا يُمكن إلا وأن يسلك الطرق الدستورية لملء الفراغ الذي أحدثته هذه الاستقالة، بمعنى أن لا تبقى الحكومة لا معلقة ولا مطلقة بانتظار البت في مسألة الاستقالة، خصوصاً وأن المادة 69 من الدستور حددت الحالات التي تصبح فيها الحكومة مستقيلة وهي: إذا استقال رئيسها، إذا فقدت أكثر من ثلث عدد أعضائها المحدد في مرسوم تشكيلها، بوفاة رئيسها، عند بدء ولاية رئيس الجمهورية، عند بدء ولاية مجلس النواب، عند نزع الثقة منها من قبل مجلس النواب بمبادرة منه أو بناء على طرحها الثقة.
وبما أن سبب اعتبار الحكومة مستقيلة جاء في سياق الفقرة الأولى من المادة 69 باستقالة رئيسها، فإن باب الاجتهاد يجب أن يُقفل، وأن العمل يجب أن ينصب على كيفية معالجة هذه الاستقالة إذا أمكن من خلال رفضها من قبل رئيس الجمهورية أو التراجع عنها من قبل رئيس الحكومة، وعدا ذلك كلّه كلام يأتي من باب التأويل والكلام السياسي.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا بعد الاستقالة وكيف يُمكن أن تتصرف الحكومة؟ إن الدستور واضح جداً في هذا المجال، حيث أكد على أن الحكومة تمارس صلاحياتها بعد اعتبارها مستقيلة بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال، يعني تصريف الأعمال الإدارية العادية التي لا تتصف بالأعمال التصرّفية، أي الأعمال التي تستوجب أخذ قرارات تكون ملزمة للحكومة التي ستأتي من بعدها، أما بخصوص جلسات مجلس الوزراء فإنه في ظل تصريف الأعمال لا يُمكن أن ينعقد مجلس الوزراء – هذا يجمع عليه أكثر الدستوريين – إلا في حال طرأ أمر غير مرتقب واستثنائي.
هذا على مستوى الحكومة، أما على مستوى مجلس النواب في ظل الخوف من تطيير الانتخابات بفعل استقالة الحكومة، فإن هناك نصوصاً دستورية تحكم هذه الحالة وهي في غالبيتها تؤكد أنه انطلاقاً من مبدأ فصل السلطات وتعاونها، يملك البرلمان بموجب الدستور حق التشريع، ويحق له اتخاذ أي قرار يريده في ظل حكومة مستقيلة، ولا يحق للحكومة تعطيل السلطة التشريعية بسبب تقاعسها عن أداء مهماتها. وبما أن المجلس يستطيع وفق المادة 16 من الدستور مناقشة قانون انتخاب، وإن كانت الحكومة مستقيلة فإنه أيضاً يستطيع مناقشة كل القضايا ذات الصلة بالانتخابات النيابية، وإن كانت الظروف السياسية التي تحكم لبنان تخضع إجراء الانتخابات النيابية بالتزامن مع الأزمة الحكومية الى الكثير من الاجتهادات والتأويلات حيث ذهب البعض إلى القول بعدم إمكانية إجراء الانتخابات المقبلة في حال بقي الوضع الحكومي على حاله.
هذا على صعيد مفاعيل الاستقالة من حيث الإجراءات الدستورية، أما في ما خص الارتدادات السياسية والاقتصادية التي نجمت عن إعلان الرئيس الحريري استقالته، فإنها من دون شك كانت مدوّية إلى حدّ أن البعض وصفها، ومنهم الرئيس نبيه برّي، بأنها كانت بمثابة الزلزال، خصوصاً وانها لم تكن متوقعة ولم يكن أحد من المسؤولين في أجوائها، فالرئيس برّي غادر بيروت إلى شرم الشيخ وهو مرتاح البال لما سمعه من الرئيس الحريري بعد عودته إلى بيروت بعد زيارته الأخيرة للمملكة التي سبقت الزيارة التي حملت بيان الاستقالة، والرئيس ميشال عون كان يمارس عمله المعتاد في القصر الجمهوري، كما أن الدائرة الضيّقة المحيطة بالرئيس الحريري لم تكن على علم بما أقدم عليه، كل ذلك جعل الاستقالة مدوّية وصادمة، وهو ما فرض إعلان الاستنفار العام على كافة الجهات السياسية في محاولة لاحتواء مفاعيل الاستقالة أقله على المستويين الأمني والاقتصادي.
ومما لا شك فيه، فإن مروحة الاتصالات والمشاورات التي تجري، إما في قصر بعبدا أو في عين التينة ودار الفتوى، ساهمت إلى حد كبير في فرملة ارتدادات الاستقالة، حيث انتقلت القوى السياسية من «سكْرة» الاستقالة إلى فكرة التفتيش عن المعالجات الحقيقية التي تسببت في إعلان الاستقالة. وتستبعد المصادر المطلعة أن يأخذ رئيس الجمهورية قراراً سريعاً في مصير الاستقالة من دون أن يعني أن الوضع سيبقى معلقاً إلى أمد طويل، خصوصاً وأن ليس هناك من مهلة ملزمة أو مقيدة لرئيس الجمهورية لقبول الاستقالة، إنما في النهاية لا يُمكن أن تبقى الأمور من دون قرار، لأنه من المميت إبقاء البلد من دون حكومة أو في ظل حكومة تصريف أعمال في مرحلة تحمل في طياتها الكثير الكثير من الاستحقاقات التي تتطلب اتخاذ القرار.