كل الخطب، خصوصاً خطب الأمين العام لـ «حزب الله» الأشهر، هدفت، بين أمور أخرى، إلى امتصاص غضب الناس، بزعمهم أن الأولوية تكمن في ضرورة الاستماع لوجع اللبنانيين، وكذلك ملاقاتهم في منتصف الطريق، ثم يعود أصحاب الخطب ينسجون على المنوال القديم نفسه. كلما دققنا في المواقف الرسمية، لا سيما فيما يجري وراء الكواليس، تأكد المؤكد، فهم وضعوا الدستور جانباً، وأولويتهم الوحيدة ابتداع تركيبة حكومية ليست أكثر من تغيير الطرابيش، وإن كانوا مضطرين للاستغناء عن أسماء ممجوجة!
في خطاب مناسبة انتهاء السنة الثالثة من الولاية، استمعت الساحات إلى حكايات لا تنتمي إلى زمن ثورة الكرامة، يوم تفجر وجع وحّد اللبنانيين خوفاً على البلد من منظومة فساد أخذت لبنان إلى التلاشي. كان جلياً غياب إمكانية التواصل، وإن كان بارزاً اعتراف القصر الصريح، بأن ما يجري حقيقي وغير مسبوق: «فتح الباب أمام الإصلاح الكبير، وسيكون للبنان حكومة نظيفة»، ما يعني أن الحكومة التي سقطت لم تكن كذلك، لكن التتمة لم تعكس أي رغبة بضرورة التعامل الإيجابي مع واقع جديد غير مجرب قبل اليوم. فكان الموقف الحقيقي فيما صدر عن القصر، وتحدث عن بذل «الجهود اللازمة قبل تحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة» للتكليف، وقيل للناس إن ما يجري «يهدف إلى تسهيل هذه الاستشارات»! إنها بدعة جديدة تدخل كتاب «غينيس» للأرقام القياسية الرسمية في التنكر للدستور بالسعي للتأليف قبل الاستشارات الملزمة والتكليف!
المعنى أنه بخلاف الخطاب الذي سعى صاحبه مرات لتقديم نفسه بوصفه ناشطاً سياسياً، واعتبار مطالبه هي مطالب الشارع، تكشفت الحقيقة عن بدء فريق القصر مفاوضات تحت الطاولة للوصول إلى توليفة بالأسماء والحقائب، سماها حسن نصر الله «حكومة سيادية» (…) – لإسقاط مطلب حكومة مستقلة من خارج الأحزاب الطائفية – لوضعها بوجه من سيصار إلى تكليفه، في شطب كامل لدور الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة، وبالتالي باتت العودة إلى الدستور والتزام مندرجاته لزوم ما لا يلزم! كل ذلك في إصرار لا مثيل له على إفهام الناس، أنهم أمام تحالف سلطوي هبط على البلد من كوكب آخر، يستند إلى الدويلة التي استتبعت البلد، وهو ماضٍ إلى الحد الأقصى في حصر الأولوية بمكتسباته، ليس إلاّ!
غني عن البيان أن الحقيقة الوحيدة التي أكدها تعمد تأخير الاستشارات الملزمة، والنشاط المحموم وراء الكواليس، كانت انتظار المظاهرات الداعمة لرئيس الجمهورية، للمضي في إهمال مبيّت بعدم أخذ صوت الناس بعين الاعتبار، ومن ثم الذهاب إلى تأليف حكومة عبر الآلية التقليدية بالتزام منطق المحاصصة الطائفية، والتذرع شكلاً بالدستور والكتل النيابية والأحجام التمثيلية… إلخ، ليصار إلى القفز فوق استرداد اللبنانيين الوكالة من كل الطبقة السياسية، الأمر الذي يؤكد أن قوى السلطة غير عابئة في تقدير قوة الثورة، ومصرة على متابعة السير في نهج انتحاري مكلف للبلد والناس. ولأن مظاهرة القصر جاءت مخيبة، لم توفر الدعم لساكن القصر، ولم تعوّم الصهر، ولم تترك إلاّ التندر لما حملته من شعارات: «طالعين كرمالو لندعمو» و«جاين نقول هوي مش مقطوع من شجرة»، وصولاً للذروة: «اللي بيقرب ع ميشو رح ننتف ريشو»… بدأ التركيز على بيت الوسط، فكان لقاء رئيس الحكومة المستقيلة الحريري مع باسيل تأكيداً على المضي في تعمد تجاهل صوت الثورة، وتكرار الرهان على تعب الذين جاءوا من رحم المعاناة وامتهان الكرامة، الذين لن يعودوا إلى بيوتهم قبل تحقيق الحد المقبول من مطالبهم، على طريق استرجاع البلد المنهوب والمخطوف، مستندين إلى إنجازات كبيرة تحققت على مدى أيام الثورة كانت تتطلب سنوات.
إلى المصالحة الوطنية الفعلية، وطي المواطنين صفحات الحرب الأهلية، وكلاهما كبير، تم إسقاط الحكومة التي وُضعت عليها الخطوط الحمراء. ما سقط كانت حكومة العهد الأولى، أخطر حكومة محاصصة طائفية وفّرت لـ«حزب الله» الغطاء لكل أدواره في الإقليم. ويعرف القاصي والداني أن نصر الله هو من أجاز تشكيلها وترأسها الحريري. وعلى الدوام، كان الشارع اللبناني والبيروتي خصوصاً، يردد أنها حكومة جبران، بل حكومة سليماني، وأن رئيسها مغلوب على أمره! وبسقوط الحكومة سقطت التسوية لعام 2016، التي لم تكن في الواقع إلاّ استيلاءً على السلطة من جانب «حزب الله»، وفي ظلها، وفي ظلّ الاستقواء بسلاح الدويلة، شهد لبنان أخطر انزلاق باتجاه قيام «دولة بوليسية» أين منها ما كان في زمن الاحتلال السوري… كل ذلك لتغطية الارتكابات والموبقات والفساد السياسي، عندما راح المتسلقون يتباهون بممارسات عنصرية تضع الفقراء السوريين في مواجهة مع الفقراء اللبنانيين، وبالتوازي، تعطى الأولوية للاستجابة لمتطلبات الأجندة التي وضعتها طهران لتمكين سيطرتها على لبنان والمنطقة.
هناك في لبنان اليوم اختلاط البعد السياسي بالاقتصادي – الاجتماعي، وبالعمق رفض للهيمنة الخارجية، وهذا ما يفسر الهجوم السافر الذي شنه المرشد علي خامنئي، واتهم اللبنانيين والعراقيين بالعمالة والتبعية، وهو أمر لم يجد أي مسؤول لبناني أن من واجبه الرد عليه. الشارع اللبناني لم يكن يوماً بحاجة لفحص دم، ولن يكون، وعشية التكليف الآتي بالنهاية، أنه وإن طعّموا الحكومة ببعض المقبولية – سيرفضها الشارع لأنه لا يطلب تمثيلاً – سيبقى همهم الأول القتال لبقاء «المحميات» في الكهرباء و«أوجيرو» ومجلس الإنماء والإعمار والمرفأ والصناديق الموزعة على محميات طائفية مستفيدين من «خدمات» إدارة محشوة بالأزلام!
لذلك يذهب الشارع إلى الاستمرار في الضغط، وتسجيل النقاط، وإعلاء عنوان المحاسبة. في هذا السياق قدم «نادي القضاة» النموذج، عندما رفع مذكرة إلى المصرف المركزي لتطبيق القانون 44 على 2015 لجهة التجميد الاحترازي لحسابات كل المسؤولين والمتعهدين والقضاة وموظفي الدرجة الأولى وفروعهم، وإخضاع الحسابات للتدقيق القضائي بها. وتباطؤ الحاكم رياض سلامة عن التلبية التزاماً بالقانون، يطرح الأسئلة، فالبلد منهوب، والتحقيقات القضائية الشفافة في الحسابات المشتبه بها في الداخل والخارج هي المدخل لبدء كشف الضالعين في السطو على المال العام، وهذه مسألة محورية، إنْ لاستعادة بعض الأموال المنهوبة من جهة، ومن جهة ثانية لضرورة كشف بعض الوجوه الكالحة؛ خصوصاً أن هناك انتخابات مبكرة مهما كابروا ووضعوا خطوطاً حمراء على مجلس انتخب استناداً إلى قانون طائفي هجين زوّر إرادة الناس.
عشية المئوية الأولى لقيام لبنان الكبير، انتفض جيل جديد طوى الانقسامات الطائفية والمذهبية، ليعلن أنه اليوم، بعد الثورة، بات المسؤول القوي الحقيقي في لبنان، من كان الأكثر وطنية والأكفأ في طائفته، ولا أولوية لدى الذين قطعوا مع ماضٍ كان يشعرهم بالغربة في وطنهم، إلاّ استرجاع الجمهورية وإحياء قيمها: عدالة، حرية وديمقراطية، خبز وعمل.