Site icon IMLebanon

الإستهلاك يمنع الإقتصاد اللبناني من الإنهيار

تُشير أرقام الإستهلاك النهائي للأسر في لبنان والتي قمنا بحسابها من خلال مكونات الناتج المحلّي الإجمالي، أن اللبناني يستهلك أكثر مما يُنتج مُرجحّة وجود مداخيل موازية. ويبقى غياب أرقام رسمية لقياس الإستهلاك العائق الأساسي لرسم أي سياسة إقتصادية توجيهية لتحفيز القطاعات الإنتاجية.

إن الثورة الإجتماعية التي ينتظرها الجميع كنتيجة لتدهور النشاط الإقتصادي، لن تكون على الموعد. يعود السبب بكل بساطة إلى حجم الإستهلاك النهائي (المنتجات المُعمّرة، الألبسة، الطعام، والخدمات…) الذي فاق حجم الناتج المحلّي الإجمالي في الأعوام 2011 إلى 2014. وقد يتساءل المواطن من أين يمكن معرفة حجم الإستهلاك النهائي في الوقت الذي لا توجد فيه أرقام رسمية.

هذه النتيجة يمكن بلوغها من خلال احتساب الإستهلاك النهائي للأسر في لبنان (بطريقتين مختلفتين) من خلال مكونات الناتج المحلّي الإجمالي حيث أظهرت الحسابات أن الإستهلاك النهائي من العام 2005 إلى العام 2015 كان كالآتي: 19.3، 18.3، 21.8، 27.1، 31.6، 35.9، 40.7، 43.4، 45، 45.8، و45.6 مليار دولار أميركي بالتوالي من العام 2005 إلى 2015. والغريب في هذه الأرقام أن نسبتها إلى الناتج المحلّي الإجمالي تتأرجح بين 84% و102% مع تخطيها الـ 100% في الأعوام 2011 إلى 2014.

هذه الأرقام تتوجب مقارنتها بحسابات البنك الدولي التي تُظهر أن نسبة الإستهلاك إلى الناتج المحلّي الإجمالي تتأرجح بين 83.3 % و89 % في الفترة نفسها (بإستثناء رقم العام 2015 الذي لم يصدر بعد من قبل البنك الدولي).

وبإعتقادنا، فان حسابات البنك الدولي ليست دقيقة والسبب يعود إلى عاملين: أولاً إعتماد البنك الدولي على توقعاته في ما يخصّ النمو أكثر من إعتماده على الأرقام المُحققة وكلنا يعلم أن هناك فرقا بين ما تمّ تحقيقه وبين توقعات البنك الدولي.

والثاني يتعلق بالإقتصاد الموازي الذي لم يأخذه البنك الدولي بالإعتبار والذي شجّع الإستهلاك عبر مداخيل لم يتمّ أخذها في الناتج المحلّي الإجمالي. وكدليل على عدم دقة أرقام البنك الدولي يكفي النظر إلى الإستهلاك في العام 2006 الذي إزداد بحسب البنك الدولي مع العلم أن الأرقام الرسمية الصادرة عن الحسابات الوطنية التي كانت تقوم بحسابها رئاسة مجلس الوزراء، تُظهر العكس.

إذا ما نظرنا إلى تحويلات المُغتربين، نرى أنها دعمت هذا الإستهلاك ولو بنسبة تتراوح بين 16 إلى 25 % حيث أن النقلة النوعية في هذا الإستهلاك تعود بشكل ملحوظ إلى تحويلات المغتربين خصوصاً بين الأعوام 2005 إلى 2010. لكن هذا السبب ليس الوحيد الذي يُبرر الإستهلاك المُرتفع. فسلوك المُستهلك اللبناني دفعه إلى تمويل قسم كبير من إستهلاكه، خصوصاً المنتوجات المُعمّرة، عبر الإقتراض.

وما فرض عليه بشكل ميكانيكي صرف مدخوله بشكل شبه كامل وهذا الأمر يشمل بالدرجة الأولى الطبقة الوسطى التي تفوق نسبتها الـ 60% من الشعب اللبناني. لكن كيف للمواطن اللبناني إستهلاك أكثر من الناتج المحلّي الإجمالي؟ هذا الأمر مُعلّل بحجتين: زيادة القروض الإستهلاكية للقطاع الخاص والإقتصاد غير الرسمي والذي يسمح بمداخيل غير مُسجّلة في الحسابات الوطنية.

إذا ما نظرنا إلى حجم الإستيراد نسبة إلى حجم الإستهلاك النهائي، نرى أن الإستيراد يُشكل من 40 إلى 50 % من الإستهلاك وبالتالي هناك خسارة تفوق العشرة مليارات دولارات سنوياً كان ليستفيد منها الإقتصاد اللبناني لو تمّ دعم القطاعات الإنتاجية التي تُشكّل النسبة الأعلى من الإستيراد!

على هذا الصعيد، نرى أن هناك منظومة تجارية موجودة بحكم الأمر الواقع وتمنع القطاعات الصناعية من التطور إن عبر وقف الدعم لهذه القطاعات أو عبر تجميد التشريعات القانونية التي تسمح بتحفيزها.

وإذا كنا نسمع الكثير عن تحفيز مناخ الأعمال في خطابات السياسيين، نرى أن هذه التصريحات ليست بجدّية خصوصاً أنها لا تشرح فعلاً كيفية تحفيز مناخ الأعمال بالتحديد خصوصاً أن أي تحفيز يجب أن يهدف بالدرجة الأولى إلى تبديل الإستهلاك من الإستيراد الى الإستهلاك من الإنتاج المحلّي. وهنا تكمن جدّية الرؤيا الإقتصادية التي يُمكن للحكومة اللبنانية وضعها. على سبيل المثال، بلغ إستيراد لبنان من المنتجات النباتية 100 مليون دولار أميركي في شباط العام 2016.

هذا الحجم يُمكن إستبدال جزء كبير منه من الإنتاج المحلّي عبر دعم القطاع الزراعي والصناعة الزراعية من خلال سياسة ضريبية مؤاتية ودعم قروض. أيضاً يُمكن ذكر المنسوجات والغزل والنسيج التي يستورد منها لبنان ما يفوق 66 مليون دولار أميركي شهرياً ونحن نعلم أن أهم الماركات العالمية يتمّ تصنيعها في دول العالم الثالث!

من هنا يظهر إلى العلن أن لبنان أهمية السياسة الإقتصادية الواجب إتباعها والتي هي الوحيدة الكفيلة بخلق نمو مُستدام. وحتّى الساعة، كل المسؤولين يُفكرون في كيفية دعم القطاع العقاري الذي وصل إلى مرحلة الإشباع وكل خطوة في إتجاهه ستعني زيادة مديونية اللبناني مع العلم أن المُستفيد هو عدد قليل من المُطورين العقاريين.

أيضاً تنحصر أفكار المسؤولين حول دعم القطاع السياحي مع العلم أننا نعرف أن هذا القطاع مُتعلق بقسم كبير بالوضع السياسي والأمني في حين أن الإستهلاك اللبناني من المنتوجات المُستوردة يزداد على الرغم من الأوضاع الأمنية والسياسية وبالتالي من الضروري التوجه نحو دعم قطاعات تكون بديلة من الإستيراد. هذا الإقتراح هو أمر أساسي من ناحية أن اليد العاملة اللبنانية ستكون العنصر الأساسي في هذه العملية وستُشكّل رافعة للإستهلاك من خلال زيادة مدخول اللبناني وتخفيف البطالة.

مما تقدّم نرى أن سلوك المواطن اللبناني الإستهلاكي هو من يُنقذ الإقتصاد اللبناني من السقوط في الهاوية. كما يظهر إلى العلن تقاعس السلطات عن الإستفادة من هذا الإستهلاك لتدعيم القطاعات الزراعية والصناعية. ويعود هذا الأمر بالدرجة الأولى إلى قوة منظومة الأمر الواقع التي تمنع أي خطة دعم في هذا الإتجاه.