هو القدر الصعب لجنود لبنان، وهو الغار الذي يكلّلون به رؤوسهم، والثمن الغالي الذي يدفعونه دائماً لحماية الارض وكرامة اللبنانيّين قدر الشهادة الذي يدفعه الجنود البواسل عند كل مفترق خطر يُهدّد البلاد.
كان الجيش اللبناني يتابع تحضيراته لتحرير المنطقة التي لا تزال تحت سيطرة تنظيم «داعش». وبخلاف الأجواء التي سادت خلال الأيام القليلة الماضية، فإنّ إطلاق النار كان لا يزال مستمراً، ولو وفق وتيرة أخفّ من السابق، أو بتعبير أكثر دقة من دون التقدّم الميداني بسبب بسيط وهو شروع فوج الهندسة في الجيش اللبناني في شق طريق جانبيّة لتفادي الالغام الكثيرة التي كان قد زرعها إرهابيّو «داعش» عند الممرّات الجردية للالتفاف على مجموعاته في مرطبيا، حيث كان تنظيم «داعش» قد حشد قواته المتراجعة على وقع الضغط العسكري للجيش اللبناني، وهي آخر منطقة داخل الاراضي اللبنانية.
لكنّ المفاوضات التي كان يتولّاها «حزب الله» مع «داعش» أسفرت عن القبول بالشروط التي وضعها لبنان من خلال المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، والتي جاءت وفق الآتي:
1 – إقرار قيادة «داعش» بتصفية الجنود الأسرى منذ فترة بعيدة، والإبلاغ عن مكان وجود رفاتهم.
2 – الإعلان أن لا علاقة لـ»داعش» بالمطرانين المخطوفين وبالزميل المصور سمير كساب، وهذا البند كان شرطاً أساسياً تمسّك به اللواء ابراهيم خلال المفاوضات، وبالتالي بقاء مصير هؤلاء مجهولاً.
3 – إنسحاب هؤلاء الى دير الزور عبر طريقين، الأوّل من الجهة السورية والثاني من الجهة اللبنانية.
وقد شكّل هذا البند العقدة الأبرز، بسبب الحاجة الى حصول تنسيق لبناني- سوري لتأمين ترتيبات الانسحاب. وعدا الحاجة العملية المطلوبة لتأمين تطبيق هذا الملف، كان هنالك جانب سياسي يتضمّن وجوب حصول تواصل بين الدولتين اللبنانية والسورية، لكنّ «حزب الله» الذي تولّى التفاوض عمل على تبديد العوائق التي تقف أمام تطبيق هذا البند، حيث تولّى التفاهم مع الجانب السوري بسبب المعارضة السياسية اللبنانية لأيّ تواصل وتنسيق مباشر مع دمشق.
وكان واضحاً أنّ الفريق اللبناني المعارض لهذا التواصل نجح في فرملة أيّ حركة للدولة اللبنانية في هذا الاتجاه.
وحسب المعلومات فإنّ اتصالاً حصل بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله جرى خلاله البحث في هذه النقطة، والتفاهم على إيجاد المخرج الملائم، وكان أن تولّى «حزب الله» ملء هذا الجزء الرمادي.
فالدولة اللبنانية وسط الانقسام السياسي الحاصل غير قادرة على الذهاب أبعد، على الأقلّ في المرحلة الحالية. فخلال الايام الماضية زار الموفد السعودي الوزير ثامر السبهان لبنان بنحو مفاجئ، وقيل كثيراً عن أسباب زيارته التي لم تشمل قصر بعبدا.
وقيل إنها جاءت للتوازن مع زيارة المسؤول الايراني حسين جابري أنصاري، وقيل ايضاً إنّها تهدف الى توحيد الصف السني ومن خلاله إعادة بثّ الروح في تحالف «14 آذار» للتوازن مع «حزب الله»، وما كان يعرف بقوى «8 آذار»، خصوصاً في مرحلة التحضير للانتخابات النيابية.
كل ذلك قد يكون صحيحاً، لكنّ الهدف الاساسي حسب مُطّلعين على هذه الزيارة، هو الوقوف في وجه السعي الحاصل لتوسيع دائرة التفاعل والتطبيع بين بيروت ودمشق.
وليس سرّاً أنّ الرياض طلبت من القوى المتحالفة معها عدم التجاوب مع المساعي الحاصلة للتفاوض مع دمشق لترتيب عودة النازحين السوريين الى سوريا، إضافة الى زيارة الوزراء اللبنانيين الى دمشق.
ومن ثم حصلت اتصالات مع بعض المسؤولين السياسيين اللبنانيين للتراجع عن مواقفهم المرحّبة بطرد تنظيم «جبهة النصرة» من جرود عرسال، ولكن مع مشكلة «داعش» وطريقة ترتيب خروج مسلحيها من لبنان، جاءت زيارة الوزير السعودي لحضّ القوى المتحالفة مع بلاده على منع أيّ تواصل مع النظام السوري ولو بهدف ترتيب انسحاب «داعش» من جرود رأس بعلبك والقاع.
وحسب هذا الفريق، فإنّ انتخاب عون رئيساً للجمهورية ترافَق مع تسوية من بنود عدّة تم التوافق عليها كلها، وأبرز تلك البنود تمحور حول «النأي بالنفس» عن النزاع الدائر في سوريا وعدم الانزلاق الى أيّ موقف أكان مع هذا الفريق او ذاك، ما يعني حسب هؤلاء وجوب تطبيق هذا الاتفاق وعدم نقضه، فيما لم تمرّ بعد سنة على التفاهم حوله.
ويومها، تمّ إدراج هذه الالتزامات في خطاب القسم الذي ألقاه عون يوم انتخابه إضافة الى البيان الوزاري تعبيراً عن الالتزام به. وبالتالي، لا يجب أن يكون مصير هذا الاتفاق شبيهاً بمصير «اتفاق الدوحة» الذي أطيح به بعد أقل من سنة ونصف السنة عند تطيير حكومة الرئيس سعد الحريري.
وقيل إنّ الحريري أبلغ الى من يعنيهم الأمر في لبنان أنه غير قادر على خفض سقفه السياسي أكثر ممّا هو حاصل الآن، ما يعني أنه ملزم بمعارضة أيّ خطوة تؤدي الى التواصل مع دمشق.
ووفق ذلك، بَدا لـ«حزب الله» أنّ الحكومة اللبنانية غير قادرة على الذهاب أبعد ممّا هو حاصل، فكان أن تولّت قيادة الحزب ترتيب الإخراج الذي حصل.
في الواقع إنّ هذا المشهد اللبناني يَتماهى مع الصورة الاقليمية الاوسع. ففي سوريا انطلق المسار لترتيب صورة التسوية التي أنجزتها واشنطن وموسكو، وبالتالي إنجاز التحضيرات الميدانية وصولاً الى إعلان انتهاء الحرب عندما تصبح الوقائع على الأرض جاهزة، وهو ما يتطلّب بعض الوقت.
وصحيح أنّ التسوية ترتكز على بقاء الرئيس بشار الاسد على رأس الدولة في مقابل إصلاحات سياسية سيجري إنجازها في المؤتمرات التي سيجري استئنافها، لكنّ النقطة الأبرز بالنسبة الى السعودية، كما بالنسبة الى اسرائيل، تتعلق بمدى النفوذ الايراني داخل سوريا ومعه نفوذ «حزب الله»، وضمناً ما بات يُعرف بـ«الهلال الشيعي».
وفي وقت رتّبت التسوية الاميركية – الروسية المنطقة المحاذية للحدود مع اسرائيل وجعلتها تحت سيطرة الجيش السوري، ولكن خالية من الايرانيّين و«حزب الله»، فإنّ هذه التسوية تركت الباب مفتوحاً أمام التواصل البري بين العراق وسوريا.
ولكن في لبنان، تشدّدت واشنطن في مسألة أن ينفّذ الجيش اللبناني بمفرده ومن دون تنسيق مُعلن على الأقل، عملية تحرير جرود رأس بعلبك والقاع، والهدف الفعلي هو عدم منح «حزب الله» أيّ موطئ قدم عسكري، خصوصاً عند المعابر الحدودية، وجاء الضغط السعودي ليكمل هذا المشهد.
وفي دلالة على الخشية الجدية من الدور الايراني وفق الترتيب الجديد، فإنّ رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهو الغارق في أزمة داخلية صعبة، أرسل الى واشنطن وفداً أمنياً للتحذير من هذه النقطة بالذات. لكن هذا الوفد الرفيع المستوى فشل في مهمّته وعاد بلا أي التزام اميركي بالعمل على تحجيم النفوذ الايراني.
وطالبَ الوفد الاسرائيلي بانسحاب إيران و»حزب الله» من سوريا لأنّ إنشاء «هلال إيراني» من ايران الى البحر سيشكّل خطراً مباشراً على الامن الاسرائيلي. ونقلت أوساط ديبلوماسية غربيّة أنّ هذا الوفد اشتكى من أنّ النفوذ الايراني «أصبح كبيراً جداً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إضافة الى تغلغل إيراني في دول الخليج وفي افريقيا حتى».
واعتبر «أنّ ايران تستفيد من زوال «داعش» وهي تَرث تركته». لكنّ الرد الاميركي كان أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب غارقة في ملفين أساسيّين: الاول، يتعلق بالازمة السياسية الداخلية الحادة، والثاني وهو المتعلّق بأزمة صواريخ كوريا الشمالية. ونصحَت واشنطن تل ابيب بالتحدث بالتفصيل مع موسكو التي تملك كثيراً من مفاتيح الحلّ وحرية الحركة، وحيث أنّ واشنطن وموسكو متفقتان على العناوين العريضة في الشرق الاوسط.
ولذلك طار نتنياهو الى سوتشي حيث يمضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إجازته، ورافقه الى هناك رئيس «الموساد» يوسي كوهين الذي حمل ملفاً دسماً حول الحضور الايراني في سوريا ومصانع إنتاج الصواريخ والقواعد العسكرية التي باشرت طهران التحضير لها عند الساحل السوري.
وإضافة الى ما عرضه الوفد الاسرائيلي في واشنطن، طالب نتنياهو ليس فقط بتحجيم «حزب الله» وتطويقه في لبنان، بل ايضاً العمل على إخراج الايرانيين من سوريا وتحجيم نفوذهم من خلال روسيا، خصوصاً أنّ هنالك تعارضاً في المصالح بين روسيا وايران. وقيل إنّ نتنياهو حاول استطلاع موقف بوتين وردّ فعله في حال تَولّت اسرائيل تنفيذ ضربة جوية ضدّ المصالح الايرانية، لكنّ بوتين الذي جدّد التزام بلاده أمن اسرائيل، بَدا متفلتاً من أي التزام تجاه تل ابيب.
وبحسب المصادر الديبلوماسية المطلعة، فإنّ رئيس الحكومة الاسرائيلية أجاب ساخراً: «روسيا لم تفعل شيئاً عندما اقترب الايرانيون من الحدود في الجولان، على رغم أنّ هذا شكّل تهديداً كبيراً للأمن الإسرائيلي».