Site icon IMLebanon

لا تشاهدوا “كونتاجيين”

 

 

بين مخيّلات كتّاب السيناريو وواقعية فيروس “كورونا

 

 

…وفجأة انقلبت الحياة رأساً على عقب. عرقٌ كثير يتصبّب، صداعٌ شديد، وهن، إنقباض في الصدر، تقيؤ وأناس يسقطون أرضاً و”رغوة” بيضاء تخرج من أفواههم. هذا هو الموت السهل أم هو الفيروس الصعب؟ نبلع ريقنا مرات. نتوتر. نتململ في أماكننا. نسند رؤوسنا بين أيدينا، نبتعد الى الوراء قليلاً، نتحسس “الكمامات” البيضاء الى جانبنا ولا نجرؤ أن ننظر في عيون بعضنا. نتابع فيلم “العدوى” Contagion وكأننا نتابع مسار هذا العالم… وكأننا في قلب هذا المشهد… وكأننا في قلب الموت! فهل كان يعرف مخرج الفيلم “ستيفن سودربرغ” قبل نحو ثلاثة آلاف يوم أننا سنعيش مثل هذا اليوم؟

كثيرون يسألون اليوم عن فيلم “العدوى” وكأنهم يسألون: وماذا قد يحصل لنا، لهذا الكوكب، غداً أو بعد غد أو بعد بعد غد؟ قشعريرة غريبة لا بُدّ أن تسري في عروق كلّ من يشاهد هذا الفيلم، الذي يُعدّ “بائتاً” سينمائياً، لكن مجيء “كورونا” أحياه. تفاصيلٌ كثيرة من تفاصيلِ هذا الفيلم تُشكل تفاصيل ما نعيشه اليوم. فهل هذه صدفة؟ وهل ينصح خبراء السينما أن نشاهده أم أن نطويه مع الزمان كي لا نتأثر أكثر بما يُصيبنا ونقلق أكثر ونقوم بإسقاط تفاصيل غير حقيقية على واقع حقيقي؟

 

الخبير السينمائي، مؤسس “إميل شاهين للثقافة السينمائية”، شاهد من زمان، في العام 2011، فيلم “العدوى”، والبارحة طُلب منه عرض الفيلم مجدداً ليشاهده مع طلابه فرفض. قراره لم يأتِ عن عبث، وقد يتناقض مع قرار آلاف سارعوا الى مشاهدة الفيلم، لكنه رأى أن من الأفضل عدم التأثر بفيلم من هذا النوع الآن، لأنه يوقع المشاهد في تفسيرات خاطئة، لكن ذلك لا يمنع أن يعود ويشاهده مع طلابه بعد أن تزول “معمعة” كورونا ويُصبح التحليل السينمائي مجدياً أكثر.

 

سؤالٌ طرحه كثيرون، كيف يمكن لمخرج (أو مخرجين) وكاتب سيناريو (أو كتاب سيناريو) أن يصيبوا في مخيلاتهم بهذا القدر ويُصبح ما “ألّفوه” وصاغوه واقعاً معيوشاً؟

 

يرى إميل شاهين “أن مخيلة كتّاب السيناريو تسمح لهم في الصعود الى القمر ومواجهة النيازك وأنماط من البراكين والزلازل وأمور أخرى كثيرة سبق وسمعنا عنها أو حُذرنا منها واستمرّت في مخيّلة السيناريست. وطبيعي أن يظهر اليوم من يسأل: لماذا انبثقت كورونا، كما في فيلم ستيفن سودربرغ، من الصين؟ وهل سيكون للخفافيش، التي تكلم عنها سودربرغ في فيلمه، دور في الفيروس المتمدد اليوم؟ ويستطرد شاهين: تذكرتُ في الفترة الأخيرة فيلماً آخر هو panic in the street عُرض في خمسينات القرن الماضي، أي قبل أكثر من نصف قرن على فيلم “العدوى”، وأظهر شخصاً مصاباً بمرض معدٍ، يهرب من مكان الى آخر، ولا يعود قادراً على التنفس. وهذا الفيلم دليل آخر أن مخيّلة كتّاب السيناريو تذهب بهم الى أمور قد نعتبرها في حينها غير منطقية لكن لا شيء في دنيانا محال”.

 

أفلامٌ كثيرة بُنيت على تجارب شعوب وتنبؤات العلماء وإمكانية انتقال الأمراض من الحيوانات الى الإنسان. يقول الخبير السينمائي هذا ويشرح: خذوا على سبيل المثال الحروب في سوريا والإشاعات التي رافقتها عن تفشي أمراض جرثومية. المخاوف موجودة دائماً ومخيّلة كتاب السيناريو تسمح لهم بالذهاب بها الى أماكن أبعد، وأحياناً أقسى، وهذا ما حصل مع الفيلم الذي عاد وشاهده الملايين، في كلّ العالم، في هذين الأسبوعين. تفاصيل فيلم contagion تشابهت، ببعضِ تفاصيلها، مع ظهور الفيروس في الصين وأعراضه، وطبيعي أن يتأثر المشاهد بهذه التفاصيل، لكن هذا لا يعني أن النتائج ستكون نفسها. هنا يفترض بالمشاهد أن يفصل ما بين ما توقعه السيناريست وما يحصل اليوم.

 

هل تتذكرون الفيلم السينمائي “دكتور سترنجلوف” الذي أنجزه المخرج ستانلي كوبريك في خمسينات القرن الماضي؟ إميل شاهين يتذكره في هذه الأيام كثيراً ويقول: في هذا الفيلم سلّط كوبريك الضوء على مشهد التسلح النووي العالمي والحرب الباردة والقنبلة الذرية… مخيّلة الكاتب أخذته الى تلك المشاهد وهو غير عليم بأبعادها. أمور كثيرة تحدث بالصدفة في السينما وتُصبح حيّة بالواقع. ويستطرد شاهين بالقول: فيلم مارون بغدادي “بيروت يا بيروت” تناول الحرب اللبنانية قبيل حصولها، في سبعينات القرن الماضي، ويعتبر بمثابة نبوءة بحدوث الحرب الأهلية اللبنانية عشية اندلاعها. إنها مخيّلة مارون بغدادي والمعلومات التي راكمها في عقله جعلته يتنبأ باندلاع الحرب التي اندلعت بالفعل.

 

يتأثر الإنسان- المشاهد بهذا النوع من الأفلام كثيراً، وسيظلّ يتكلم عنها كثيراً: أليس هذا المشاهد هو من لا يزال يتحدث حتى هذه اللحظة عن نوستراداموس وماذا قال وماذا تنبأ؟ في كل حال، بحسب رأيي، والكلام الى شاهين، نفضل أخذ كلّ هذه اللقطات والمشاهد والأحداث التي تجري سينمائياً، حتى ولو تقاطعت واقعياً، على محمل التسلية وليس إلا، لأنها ليست علمية. في كل حال، يفترض أن تخلق هكذا أعمال تساؤلات وبعضها نجح في ذلك ونقاش هذه الأفلام ضروي لكن أعتقد أن الغرق في إسقاط سيناريو فيلم على الحياة الواقعية، خلال تطورات إستثنائية في هذه الحياة، يؤثر سلباً ولا يفيد.

 

السيناريست، كما المحلل السياسي، ينجح أحياناً في توقع أحداث ستحدث ويفشل أحياناً في كلّ توقعاته. الصدفة تلعب دوراً. الحظ يلعب دوراً. وبعض التوغل في العلم وفي الواقع قد يُقرّب السيناريو من الواقع المرتقب.

 

نجلس في بيوتنا، بلا أفق أحياناً وبضخّ بعض نسمات الأمل في أنفسنا، بالقوة غالباً، كي نتمكن من البقاء، ونقلّب بين عناوين أفلام سينمائية وقصص نشعر ونحن نتابعها وكأننا نشاهد قصص حياة أو “سيناريوات” ستُشكّل ذات يوم قصص حياة. نتابع the seventh seal ونعيش أحداث الطاعون، طاعون الموت الأسود. نتابع فيلم the masque of the red death. نغوص في مشاهد أفلام the grazies وpandemic و bird box و Bellerophon وthe silent weapon وغيرها وغيرها… يبدو أن السينما العالمية بحاجة دائما الى الأشرار، والى فرضيات الهجومات الإرهابية والأسلحة البيولوجية و”جيش القرود الإثني عشر” والفيروسات المجهولة القاتلة و”الجمرة الخبيثة” والطاعون المتفشي والطاعون الرئوي وأوبئة الكوليرا والإيبولا والسارس والجدري و”الحمى النزفية” والوحوش المتسللة ومصاصي الدماء والحجر الصحي وجزر الموت والعقاقير الملوثة… في موازاة ذلك، هناك بحث دائم عن أمصال الحياة ومحاولات السيطرة على الأوبئة و”الأبطال” في مواجهة “الحراميي” ونجاح “البطل” دائماً في النهاية في إنتاج مستحضر مضاد يُنقذ به البشرية. فلنراهن على ظهور بطل ما، من مكان ما، يُنقذنا من رعب الـ 2020 الذي ذهبت مخيّلة كتّاب السيناريو الى رسم ملامحه قبل حين غير أن النهايات قد لا تتشابه دائماً.

 

وماذا بعد؟

 

شاهدتم contagion؟ بعد؟ البارحة شاهدناه، عكس إرادة الخبير السينمائي إميل شاهين، ورأينا كيف يتلوى البشر على الطرقات ويسقطون موتى، وسمعنا في الفيلم مراراً وتكراراً من ينصح البشر بالبقاء آمنين وبعدم مصافحة أحد وبغسل اليدين كثيراً. سمعنا الممثلين يقولون ما نسمع الأطباء يقولونه. أمس، قبل عشرة أعوام، إنتقل فيروس إسمه “إم إي في 1” من طاه في هونغ كونغ الى إمرأة، ومن المرأة، التي عادت الى الولايات المتحدة الأميركية، الى طفلها. يومها رجح الطب أن يكون المرض انتقل الى الإنسان من الخفافيش. واليوم، يُرجح الأطباء أن تكون الإصابة الأولى قد انتقلت من الحيوان الى الإنسان. في الفيلم قتل الفيروس 26 مليون إنسان في شهر واحد أما كورونا فقتل في ثلاثة أشهر أربعة آلاف إنسان. حظنا أفضل من سكان سيناريو “كونتاجيين”؟ فلنأمل ذلك.

 

في العام 1918 حصل وباء “الإنفلونزا الإسبانية” وقتل 50 مليون شخص. “كونتاجيين” قد يكون تأثر بتلك الإنفلونزا الإسبانية وقد يكون تنبأ بوباء كوفيد 19. لا نعرف بماذا كان يفكر السيناريست وهو يسرح بخياله لكن ما نأمله أن تكون نتائح 2020 أقل من محصلة 2011 و1918. قولوا الله.