IMLebanon

صائد الحاويات وحثالة البشر

 

يقف الرجل قرب الحاوية الممتلئة بالخيرات. لا تقلق راحته جلبة المدينة وضوضاؤها الاعتيادية. لقد امتهن “صيد الحاويات” منذ ألمّت به ضائقة تركته كسير الخاطر، مهموم الحال. كان يصطاد قوته كلّ يوم من عملٍ يدرّ عليه ما يكفيه، لكن القدر شاء أن يصبح بين ليلة وضحاها “صائد” حاويات. يقصدها في فتراتٍ متباعدة نهاراً أو ليلاً متى نهشه الجوع، متأمّلاً، متضرّعاً كمن يبحث عن كنزٍ نفيس.

 

يمدّ يده إلى جوفها. ينتشل من أكوامها قطعة خبزٍ عفنة. يناولها الى شريكة عمره الواقفة قبالته بوداعةٍ مترقّبةً عودة يمينه بطريدةٍ دسمة. لن يوقف البحث. سيواظب النبش بأظفاره المتسخة، سيغوص في أعماقها حتى يظفر بفتاتٍ يسدّ به رمق زوجته ويسند من تكوّر في أحشائها بمنأى عن جفاء العالم الخارجي.

 

ليس الفيديو المتداول أمس بكثافةٍ للزوج المتضوّر جوعاً والملتهم لفضلاتٍ من حاويات نفاياتٍ متراصّة بمقزّز. فالمشاهد المأسوية باتت فصولاً متعاقبة نتابعها برتابة من اعتاد “التفرّج” على البؤس من نافذة سيارته، أو شرفة بيته، أو من خلف شاشة تلفونه كمن يتابع بصبرٍ لا ينفد مسلسلاً طويلاً بحلقاتٍ لا تعرف الخاتمة. هي الحياة بفجاجتها تراها من دون “رتوش” وقد فرضت نفسها عليك ضيفاً ثقيلاً، فبتّ لا تستطيع الانفلات من تعاستها أينما أشحت بنظرك.

 

لا، ليس الفيديو مقزّزاً. بل المقيتُ فعلاً هو تلك القدرة المدهشة، لا بل المَرَضية، لدى فئةٍ من “اللابشر” على الوقوف ببرودةٍ لالتقاط دقائق مفجعة وتداولها بحماسةٍ شديدة وبتعليقاتٍ كريهة من شاكلة: “يااااي شوفي شكلها…. يييي هي حامل… شوفي بطنها… يييي كإنّو جبلها وردة…”.

 

لم تدع المرأة المُهلّلة لـ”اكتشافها العظيم” هاتفها جانباً. لم تهرع الى برّادها بإرادةٍ منتفضة بحثاً عن “كسرةٍ” تسارع بها الى الزوج الجائع فتجنّبه مذلّة التجربة. اكتفت بسيلٍ من التعليقات النتنة مبرّرةً خمولها المروّع بجملةٍ مقيتة: “ييي لو في شي محلّ فاتح كنت اشتريتلهم شي”… لم يحرّك المشهد في ضميرها الغائب ساكناً. استكثرت على الزوج المتضوّر “فتاتاً” مهملاً في زاوية برادها، أو معلباتٍ مرمية في دهاليز خزائنها.

 

لا ليس مشهد النبش في النفايات مثيراً للغثيان. بل المستهجن هو هذا الصنف من مدّعي “الآدمية” الذين لا يحترمون خصوصية أشخاصٍ في محنة، مقتحمين حياة الآخرين وموتهم بوقاحةٍ صارخة وقلّة أخلاقٍ موصوفة. ما هو كريهٌ هو هذا الصنف ممّن لا تهمّهم مراعاة مشاعر الناس، ولا الحفاظ على كراماتهم ولا حتى أن يحدثوا أثراً طيباً في محيطهم. هؤلاء أنفسهم من طينة من تداولوا فيديو الجندي الشاب وهو يردي حبيبته بطلقة وينتحر، أو فيديو “بيار الجميل” صريعاً على طاولة المشرحة، أو من صوّر ببلادةٍ ممرّض رفيق الحريري مكافحاً لمغادرة السيارة المحترقة بجسدٍ التهمته النيران بعد الانفجار المروّع. هؤلاء أنفسهم مَن، عند كلّ معاناة، يهرعون الى مكان الحدث لا لمدّ العون بل للذّة التلصص، ومداولة مشاهد يتبارون على تصويرها وكأنهم في مسابقة تافهة من حلقات “تلفزيون الواقع”… هؤلاء أنفسهم كالذئاب الكاسرة تحوم حول جسدٍ هزيل بانتظار الانقضاض عليه… هؤلاء هم الغثيان… هؤلاء هم الحثالة!