أدار الرئيس الشهيد رفيق الحريري الحياة العامة، في لبنان، لأكثر من عقد زمني (متقطع)، بدأ بحكومته الأولى أواخر العام 1992، وانتهى باغتياله، واستطاع بمشروعه للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، ان يكون مركز الحركة السياسية والانمائية، الى حدّ انتشار مقولة شعبية ان أول سؤال يطرحه اللبنانيون، كل صباح، على أنفسهم، هو بمَ سيفاجئنا اليوم؟
كان الحريري في موقع الفعل، و خصومه، جميعاً، في موقع ردّ الفعل. كان همه ان يتقدم البلد، وكان “دورهم” أن يعارضوه، من دون أي تصور بديل. ولعقم أفكارهم، حولوا المواجهة السياسية معه، الى تحامل شخصي لا ينحدر اليه الأسوياء. وحتى حين أقصي عن الحكم، ظلّ “قائد” الحياة العامة، في كل أوجهها، وظل “الرئيس”، وهو خارج السرايا التي أعاد تأهيلها، مبنى ودوراً.
تستدرج الذاكرة هذه الافكار، مع مرور 25 عاماً على اتفاق “الطائف”، وتسارع جلسات المحكمة الدولية، وشغور موقع رئيس الجمهورية، في اعتداء سافر، وغبي، على الديموقراطية، تكلّل بتواطؤ الجميع للوصول الى تمديد ولاية مجلس النواب.
ومع هذه الأفكار، تتتالى مشاهد الانجازات التي تحققت في “عقد الحريري”، من وسط بيروت، الى المطار والمستشفى الحكومي، فالمدينة الرياضية، ومشروع “أليسار” الذي فتكت به المصالح السياسية و”النهب الوطني”، و”تفاهم نيسان” وغيرها من مداميك النهوض، التي رفعت نسبة النمو العام الى ما فوق الـ10 في المئة.
مع اغتياله، وانسحاب الوصاية الأسدية، دخل لبنان عقد “الحزب المتسلّط”، ولمّا يزل: صار هذا الحزب مصدر العملية السياسية والأمنية والاقتصادية، والاجتماعية. فماذا جنى اللبنانيون خلال 10 سنوات، كتبها الحزب إياه، بـ”فتنة التحذير من الفتنة”، وبمواجهات عند الحدود جنوباً، وبقاعاً، تعطي عضلاته، المستعارة من ايران، بريقاً يظنه يبهر اللبنانيين ويخضعهم؟
افتتح الحزب “عقده” في 8 آذار 2005 بمبايعة بشار الأسد على تولي دوره في التحكم بلبنان، ما استدعى رداً مليونياً في 14 آذار. وحين انتهت الانتخابات النيابية، في العام نفسه، الى رجحان القوى الاستقلالية، وميلها الى حكومة اتحاد وطني، لم يلبث أن أدخل البلاد في انقسام حاد باحتلال وسط بيروت مدة 18 شهراً توّجها بـ7 أيار 2008 وانتهت بـ”اتفاق الدوحة” وتوافق على انتخابات العام التالي، وحكومة مشتركة. لكن الحزب الذي يتقن “الديموقراطية الميليشيوية”، لم يلبث ان غدر بـ”اتفاق الدوحة”، والمصالحة السورية – السعودية المزعومة، ليسقط حكومة سعد الحريري، و”ينجب” حكومة ميقاتي، التي عاد واسقطها، لحاجته الى ما يشبه مصالحة جديدة تغطي ورطته في سوريا، بمظلة حكومة تمام سلام الراهنة.
عقدان متواجهان من عمر لبنان. عقد وصل الناس وبناء الدولة، وعقد فصل بينهم وقضم الدولة. عقد تجديد الكيان واستقلاله، وعقد زعزعته، والحاقه. عقد بناء السياسة بالاقتصاد، وعقد تدمير الاقتصاد بالسياسة.