في الحالات الاستثنائية وتحديداً تلك التي يكون فيها «حزب الله» محشوراً إلى أقصى درجاته، يُصبح قادته ديموقراطيين أكثر من الديموقراطية نفسها، وهذا ما يظهر بشكل جلي واضح في العديد من خطابات السيد حسن نصرالله الذي تتبدل خياراته السياسية وتتنوّع من خطاب إلى آخر، بحيث لم يعد معروفاً ما يُريده «حزب الله» وما لا يُريده وهو الذي أصبح يُسيّر البلد ومن فيه وفق إيقاعه العسكري والسياسي.
مرّة يرفض «حزب الله» حصول انتخابات رئاسية قبل الانتخابات النيابية، ومرّات يذهب إلى حد التهويل على اللبنانيين في حال اعتماد هذا الخيار. ومرّة يدعو المسيحيين للإتفاق على قانون انتخاب جديد للسير به قبل أن يعود بعدها وينقض مطلبه الأول ويُطالب بالنسبيّة. وهذا ما يؤكد مجدداً أن «حزب الله» يستأثر بالبلد وبقراراته المصيرية من دون أن يُعير أي اهتمام للدولة وسيادتها وهو الذي له في كل محطة سجل من الانتهاكات والارتكابات والانقلابات على مواثيق الدولة وأعرافها.
بعد أيام على انتهاء الانتخابات البلدية في الغبيري والبقاع والجنوب، يبدو أن «حزب الله» يعيش اليوم نشوة «نصر» لم يُشاهد سوى في سجلاته هو ولم يُردد إلا عبر إعلامه، فعن أي انتصار يتحدث نصرالله في ظل اللوائح التي خُرقت والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من السقوط لولا استجلاب «المال النظيف» المُغلّف باستحضار دماء «الشهداء» وأوجاع الجرحى وأنين الأمهات و»التكليف الشرعي»؟ عن أي انتصار يتحدث ونسبة 48 في المئة من أصوات البقاعيين صبّت لمصلحة المستقلين والمطالبين بالتغيير وبضرورة سحب أبنائهم من سوريا قبل أن يعودوا مُحمّلين على «لوائح« الموت؟
يقول نصرالله في خطابه الأخير الذي ألقاه بمناسبة «عيد التحرير» إنه «مع إجراء الانتخابات النيابية وفق قانون جديد وعصري يجري على أساسه انتخاب مجلس نيابي جديد وعدم القبول بقانون الستين، وبأنه مع قانون انتخابي على أساس النسبية يعطي التمثيل العادل للجميع«. لكن حتّى ولو حصل نصرالله على مراده هذا وتعرّض بعدها لخيبة أمل، فهو لن يُسهّل أو يُمرّر فوز خصومه بكل تأكيد، انتخابات العام 1997 النيابية ما زالت ماثلة في الأذهان رغم وعوده التي سبقتها كالقول «من يفوز بالانتخابات صحتين على قلبو».
ويتهم نصرالله الفريق الآخر بأنه «يُصرّ على عدم النسبية ليحافظ على قوته ويمنع وصول أي فريق آخر منافس له الى المجلس النيابي وأن لا مشكلة لدى حزبه في حصول الانتخابات الرئاسية قبل الانتخابات النيابية»، زاعماً أن «من نتائج الانتخابات البلدية أنها حلّت مشكلة من اثنتين لمنع التمديد للانتخابات النيابية وهي الوضع الأمني لأن الانتخابات البلدية أصعب من الانتخابات النيابية وقد حصلت بطريقة سليمة وآمنة ونزيهة».
لم يطل الجواب على كلام نصرالله وادعاءاته وتعرّجاته الخطابية الدائمة والتي أصبحت تتنقّل معه من مناسبة كلامية إلى أخرى، فوصله الرد من الرئيس سعد الحريري مؤكداً أنه «لو كان تيار المستقبل يسعى للاستئثار لما وافق ووقع على اقتراح قانون نسبي مختلط مع القوات اللبنانية واللقاء الديمقراطي في المجلس النيابي«.
وقال: «سمعنا السيد حسن متمسكاً برأي من يمثلون في المئة أو أكثر من أي مجموعة، فما رأيه أن يستمع الى رأي غالبية اللبنانيين ومن بينهم أكثرية صامتة من الشيعة قبل أن يورّط بلدنا في حروبه الانكشارية من سوريا الى اليمن؟». كلام الحريري ما هو إلا لتأكيد المؤكد أن الطائفة الشيعية ما عادت تحتمل هذا الاستنزاف بحق أبنائها، فمرة يُقتلون في اليمن ومرة في العراق وفي سوريا، وسبق أن قُتل منهم في زواريب لبنان تحت حجّة حماية سلاح «المقاومة» التي أدارت ظهرها اليوم للعدو الأساسي بعدما استدارت باتجاه الشعب السوري.
وفي الخطاب نفسه يُشير نصرالله إلى أنه «إذا انتهت مدة المجلس النيابي الحالي نحن مع إجراء الانتخابات النيابية في أي وضع كان وليس هناك أي فرصة للتمديد». في هذا الجزء من كلامه، رغب نصرالله في القول للبنانيين إن «حزب الله» حريص على البلد ومؤسساته وتطبيق قوانينه، لكنه تناسى كيف أُشعل وسط بيروت بالنيران يوم تغلغلت جماعاته وسط تظاهرات «المجتمع المدني» وكيف كانت وما زالت كتلته النيابية تشنّ هجومها على هذه البقعة بالتحديد تحت حجج متعددة فقط من باب استهداف رمزيتها.
كعادته يبرع «حزب الله» بتزوير الحقائق وحرفها عن مسارها بالمقدار نفسه الذي يمتهن فيه الانقلابات. يختلق الحجج ويمنح نفسه الأعذار ليتهرّب من الحوارات والتعهدات، وعلى الرغم من ادعاءاته وأطروحاته المتكررة والمملة التي يستخدمها لحرف أنظار اللبنانيين وجمهوره عن الإبادة التي يرتكبها بحق الشعب السوري وحق أبناء طائفته بالتضامن والتكافل مع النظامين الإيراني والسوري، فقد وجدت أصوات بالأمس عبّرت عن رفضها لكل هذه الممارسات ولو داخل صناديق الاقتراع، وهي حتماً بانتظار الفرصة المناسبة لكي تخرج بالصوت والصورة لكي تقول بالعلن كلمة «لا».