IMLebanon

طابخ سم «جاستا»… آكله؟

من المثير للاستغراب والدهشة أن نشهد حالات القلق والخوف من قانون الكونغرس الأميركي «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب»، المختصر بكلمة «جاستا»، وردود الفعل الهجومية أو الدفاعية، على رغم أن العرب يمتلكون كل إمكانات الرد وأدواته على هذا العمل المشبوه ورد الصاع صاعين على صانعيه ومن يقف وراءهم.

صحيح أن تطورات الحوادث في المنطقة وخلفيات المؤامرت المتلاحقة ضد الدول العربية توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن المخفي أعظم قد يبدأ بمسرحيات قضائية يرفعها أفراد من عائلات ضحايا تفجيرات نيويورك وواشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بدعم صهيوني وتحريض من مقتنصي الفرص والمحامين المختصّين بالابتزاز، وتتواصل لتهديد أمن المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي ونهب أموالها المودعة في الولايات المتحدة على شكل سندات قدرت قيمتها بأكثر من 750 بليون دولار، إضافة إلى بلايين أخرى عائدة إلى مستثمرين سعوديين.

وخير معبّر عن الجحود الأميركي ونكران جميل المملكة رواية منسوبة إلى الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز الذي كان طيباً وصريحاً. فقد استقبل آنذاك الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في مستهل زيارته الرياض بقوله: «عندي لك كلمتان لا غير قبل أن تذهب إلى المفاوضات مع الوفد السعودي برئاسة الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز (رحمهما الله): إسرائيل تأخذ فلوسكم وتتآمر عليكم وتعاديكم وأنتم تأخذون فلوسنا وتهاجمونا وتعادوننا، وهذه سياسة رعناء وغير أخلاقية».

وانطلاقاً من هذه العبر، لا بد من مواجهة هذه السابقة الخطيرة، كما وصفها الرئيس باراك أوباما، والبدء أولاً بالتفكير والتحلي بالهدوء لحصر التداعيات، ومن ثم تشكيل لجنة من الخبراء القانونيين والإعلاميين والماليين والمختصّين بمختلف مفاصل السياسة الأميركية لحمل الكونغرس بتركيبته الجديدة على سحب القانون كأنه لم يكن، ودراسة وسائل الرد المحكم في حال عدم الاستجابة للطلب ووضع حد لهذه المهزلة التي نسفت أسس العلاقات الدولية والحصانة السياسية للدول.

والأكيد أن هذا التصرف الطائش وضع الولايات المتحدة في موقف صعب وهز صورتها وأفقد الثقة بصدقيتها في التعامل معها، خصوصاً بالنسبة إلى العلاقات مع السعودية التي توصف بالتاريخية الوثيقة على امتداد قرن من الزمان، وتشمل التعاون في مجالات المال والسياسة وأسعار النفط والحفاظ على الاستقرار العالمي، إضافة إلى ما قامت به من خطوات لحماية المصالح الأميركية وتعزيز الاقتصاد باستيراد بضائع وأسلحة وإقامة مشاريع مشتركة بأكثر من تريليون دولار.

يضاف إلى ذلك كله اعتبار المملكة أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة ومن أكبر الداعمين للدولار باستمرار اعتماده أساساً في تسعير النفط ومنع تعرضه للاهتزاز وسط منافسة قوية من العملات المهمة الأخرى.

ولا يتسع المجال هنا للمزيد، لكن السؤال المستهجن والمطروح هو: هل هكذا يكون الجزاء؟ وهل تُقابَل كل هذه المواقف بالجحود والنكران، ومن ثم فتح الأبواب أمام تعريض المملكة لسلسلة قضايا ومحاكمات وابتزاز للسطو على ممتلكاتها، كما فعلت مع دول أخرى وبينها دول عربية مثل العراق وليبيا؟

صحيح أنه ليس في السياسة عواطف وليس في العلاقات الدولية شيء اسمه «رد الجميل»، لكن الواجب يفرض الرد على هذا الجحود بإجراءات عملية وقانونية وسياسية ومالية بعيداً من العواطف والتهديدات، إضافة إلى بدء حملة عربية وإسلامية ودولية داخل الأمم المتحدة وخارجها للتصدي لهذا الخرق الفاضح للقانون الدولي ووقف مفاعيله.

ويدعم هذا الجهد ظهور حقائق ثابتة تؤكد أن السحر سينقلب على الساحر الأميركي وأن طابخ السم سيأكله عاجلاً أوآجلاً. وقد حذّر من ذلك الرئيس أوباما في مناسبات عدة، مؤكداً أن السعودية لا علاقة لها بالعملية وأن هذا ثبت بعد تحقيقات استمرت عشر سنوات. ونبه إلى أن نقض الفيتو الرئاسي على «جاستا» سينعكس على المصالح الأميركية وعلى الجنود الأميركيين المنتشرين في العالم.

وينطبق على رعاة هذا القانون المثل القائل: «من كان بيته من زجاج لا يرشق بيوت الآخرين بالحجارة». فتاريخ الولايات المتحدة القديم والمعاصر زاخر بالعمليات التي يطاولها القانون الدولي، من استخدام الأسلحة الذرية ضد اليابان (هيروشيما وناغازاكي)، ما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، وقد تحرك أهاليهم فور صدور القانون لرفع دعاوى ضد الولايات المتحدة للمطالبة بتعويضات باهظة.

أما الجرائم الأخرى، فممتدة من فيتنام إلى دول أميركية لاتينية، ومن العراق إلى أفغانستان. هذا إذا لم يتم نبش صفحات التاريخ الأسود بإبادة الشعب الأصلي من الهنود الحمر، ثم في الحرب العنصرية ضد الأفارقة الذين شُحِنوا بالبواخر مكبلين من أسواق النخاسة في أفريقيا إلى أسواق العبيد في أميركا.

أما بالنسبة إلى الجراح العربية، فهي أكثر من أن تعد وتحصى لأن انتهاكات حقوق الإنسان يندى لها جبين الإنسانية، من قتل أكثر من مليون عراقي بعد الغزو الغاشم الذي أثبتت التحقيقات أنه كان غير قانوني ولا شرعي وغير مبرر، ومنها ممارسات التعذيب الموثقة في سجن أبو غريب وغيره، وصولاً إلى سجن غوانتانامو في كوبا.

وحتى الحروب الإسرائيلية ضد العرب وممارسات إسرائيل الوحشية في حق الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض والحق، يمكن مقاضاة واشنطن بها لأنها تدعم الاحتلال سياسياً ومالياً وتمده بالأسلحة الفتاكة وتغض الطرف عن استخدام إسرائيل أسلحة محرمة دولياً، إضافة إلى جرائم المستعمرين الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الأميركية ضد المدنيين العزل وحرق الأطفال الفلسطينيين وذبحهم، عدا عن قتل المدنيين وقصف بعض المواقع، زعماً أنها وقعت بالخطأ، كما حصل أخيراً في قصف قوات سورية كانت تحارب «داعش» في دير الزور.

لهذا، لا بد من جمع كل الأدلة ونتائج التحقيقات والتصريحات والمذكرات التي أعلنت ونشرت بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن للبناء عليها في تحريك الدعوى المضادة ومواجهة الابتزاز. وهناك وثائق دامغة تؤكد أن الولايات المتحدة هي التي أنشات «القاعدة» وتغاضت عن أمور كثيرة لاستخدام «المجاهدين» في مواجهة الاحتلال السوفياتي أفغانستان. وهناك تصريحات موثقة بالصوت والصورة لمسؤولين أميركيين، بينهم المرشحة للرئاسة هيلاري كلينتون تقول فيها: «نعم، نحن الذين أنشأنا القاعدة قبل 40 سنة لأن الاتحاد السوفياتي احتل أفغانستان ولم نكن نتحمّل أن يسيطر على آسيا الوسطى، فذهبنا إلى العمل»!

كما تداولت وسائل التواصل الاجتماعي حديثاً تلفزيونياً للجنرال الأميركي آلبرت كاشف الذي عمل في الجيش والاستخبارات لمدة 32 سنة طرح فيه الكثير من علامات الاستفهام وشكك باصطدام طائرة بمبنى البنتاغون وبأن انهيار البرجين حصل بتفجيرات من الداخل، وأكد الجنرال أن كل المعلومات الاستخباراتية عن العملية موجودة لدى الدوائر المختصة ووصلت إلى البيت الأبيض، لكنها فُقدت أو أخفيت أو ضاعت لسبب مجهول.

وهناك كثير من المذكرات لرجال الاستخبارات مثل «لعبة الأمم» لمايلز كوبلاند و «حبال من رمال» لويلبر إيفلاند عن دور أميركا في الانقلابات العسكرية والاضطرابات منذ خمسينات القرن العشرين حتى يومنا هذا، إضافة إلى كثير من الاغتيالات وعمليات التدمير المنهجي التي لعبت الاستخبارات الأميركية دوراً فيها.

لكن، كيف يمكن الرد على هذا الخرق الفاضح للقانون الدولي وللعلاقات التاريخية، مع السعودية وغيرها، بعدما اعترف الأميركيون بأنهم اخترعوا الوحش الذي أنجب وحشاً آخر اسمه «داعش»، ثم تخلوا عنه وتركوه ليعيث فساداً في المنطقة ويساهم في مؤامرة التقسيم والتفتيت وتشويه صورة الإسلام لمصلحة أعداء العرب الحقيقيين وتدعيم وجود إسرائيل كقوة وحيدة فاعلة؟

لا بد أولاً، بعد جمع الحيثيات والمستمسكات والوثائق، من بدء التنسيق مع الدول العربية والإسلامية، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي لتشكيل جبهة واحدة تتصدى للقانون، ومن ثم إقامة تحالفات جديدة تنهي الهيمنة الأميركية وتوسع مجالات التعاون مع دول أوروبا واليابان والصين ودول تجمع «بريكس» كشركاء جديين.

أما بالنسبة إلى الإجراءات الاقتصادية، فتبدأ بسحب الأرصدة والاستثمار ووقف التعاملات والاستيراد، واستبدالها بأخرى من دول العالم، ووقف ارتباط الريال السعودي بالدولار واعتماد عملات أخرى وإعادة تسعير أسعار النفط بسلة عملات.

قد يكون بعض هذه الإجراءات خطيراً ويتسبب بردود قوية ويمر بتعقيدات كثيرة، إلا أنه من الممكن أن تنفذ على مراحل بعد استنفاد كل مجالات الحوار مع القيادة الأميركية الجديدة لإيجاد مخرج من هذا المأزق الذي أوقع الكونغرس بلاده فيه من دون مبرر، لكسب بعض الأوساط الصهيونية في انتخابات الرئاسة والكونغرس المقررة خلال أيام.

إنها أزمة خطيرة ستكون لها تفاعلات كبرى على العلاقات الدولية والمنطقة بأسرها، وتقلب الموازين والتحالفات، مع الجزم بأن الولايات المتحدة ستندم وتعرف أنها ستدفع الثمن غالياً من مصالحها ونفوذها وتحالفاتها، وسيكون طابخ سم «جاستا» أول من يأكله في حال لم تتدارك الأمر وتوقف هذه المهزلة التي تهددها قبل أي طرف آخر.