قد يفاجأ اللبنانيون بخطوة من خارج السياق، في لحظة ما، هي إعلان لبنان الرسمي إجراء اتصالات مع الرئيس السوري بشّار الأسد حول ملفين متداخلين هما: النازحون والإرهاب. فهذه «الطبخة» موضوعة على نار قوية، وباتت شبه ناضجة، لكنها تنتظر اكتمال الظروف للإعلان عنها.
ليس جديداً السجال حول وجوب انفتاح لبنان الرسمي على نظام الأسد أو عدمه. فمراراً، في ظل حكومة الرئيس تمام سلام، وخصوصاً بعد عمليات القاع الانتحارية في حزيران الفائت، رفعَ وزراء «حزب الله» وحلفاؤهم الصوت داعين إلى اعتماد هذا الخيار، لعله يساهم في ضبط تلك المنطقة الحدودية من الجانب السوري. لكنّ وزراء 14 آذار عارضوا تماماً أيّ اتصال ذي طابع سياسي. فبالنسبة إليهم، لا اعتراف بالأسد ممثلاً شرعياً لسوريا.
وفي المقابل، يعترف هؤلاء بمشروعية الاتصال الأمني بأجهزة الأسد لحَلحلة مسائل حيوية، كالعسكريين المخطوفين لدى «داعش»، و«النصرة» سابقاً، وكذلك بعض المسائل المتعلقة بالإرهاب وخلاياه وتحركاته في لبنان والخارج.
وهذا النوع من الاتصالات بين الأجهزة اللبنانية وأجهزة الأسد ليس مستغرباً لأنّ أجهزة الاستخبارات العربية والإقليمية والدولية الفاعلة، بما فيها تلك التي تناوئ دولها النظام السوري، تمدّ أقنية الاتصال المكشوفة والمستترة مع أجهزته الأمنية وأمنه السياسي، للتنسيق في ملفات الإرهاب الزاحف نحوها.
الإحراج الذي يشعر به فريق 14 آذار، وسواه، ناتج عن اقتناع لديه بأنّ هذا الإرهاب نفسه هو أحد الأوراق التي يلعبها نظام الأسد لتبرير بقائه. فهل من المنطقي أن تتم الاستعانة بالأسد للتخلّص من ورقة في يده، وهو في أمسّ الحاجة إليها؟
وفي السياق تقول مصادر قريبة من «8 آذار» أن الجواب مُلتبس. ولكن، ليست هناك خيارات أخرى لمواجهة الإرهاب في الشرق الأوسط سوى الاستعانة بهذا النظام الذي أتقَنَ، منذ أيام الرئيس حافظ الأسد، استخدام ورقة التطرّف والإرهاب الإسلامي وغير الإسلامي، لتصوير نفسه شريكاً للمجتمع الدولي في المواجهة.
وتؤكد المصادر نفسها أنه في المراحل السابقة من الحرب في سوريا، كان فريق 14 آذار يراهن على سقوط نظام الأسد، فلا داعي إذاً لفتح حوار معه. لكنّ الجميع بات اليوم متيَقّناً بأنه باق. وحتى سقوط الأسد بالتسوية السياسية يبقى موضع شكوك حقيقية. وهذا ما يُحتِّم أن يعمد الجميع إلى مراجعة واقعية في التعاطي معه.
وأساساً، طرأت تحوّلات مهمة على نهج قوى 14 آذار تجاه «حزب الله» ومشاركته في الحرب السورية. فهي اليوم شريكة «الحزب» في الحكومة، وتطوي ملف السلاح والقتال في سوريا، ولا تأخذ هذه المسألة في الاعتبار، في مسعاها إلى فتح خطوط التواصل معه والتحالف مع شركائه السياسيين.
وتقول المصادر: اليوم، بات فتح خطوط اتصال مع مؤسسات الدولة السورية التي يقودها الأسد أكثر نضجاً لعوامل عدة:
1- على المستوى اللبناني، يتيح وجود الرئيس ميشال عون في بعبدا تحقيق هذا الهدف بسهولة. وقد بدأت ملامح الانفتاح على الأسد من الأسابيع الأولى. ويدعم ذلك الموقف المتشدِّد الذي يلتزمه عون في موضوع النازحين السوريين، وهو سيكون المفتاح لأيّ خطوة منتظرة.
2- على الصعيد السوري، تجاوز الأسد مخاطر السقوط، وسط اعترافات عربية وإقليمية ودولية، مكشوفة وضمنية بضرورة استمراره في الحكم.
3- مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، طرح فكرة إنشاء مناطق آمنة في سوريا، يمكن إيواء النازحين فيها. وهذا الأمر يعني لبنان مباشرة، لأنه أكبر المتضررين من تفاقم أزمة النزوح. وفي الجولة العربية التي قادت عون إلى الأردن، جرت مناقشة لاستراتيجية عودة النازحين السوريين إلى بلدهم.
ومن المقرر أن تبلور الإدارة الأميركية الجديدة تصَوّرها لهذا الملف في الأسابيع المقبلة. وفي ضوء ذلك قد يتخذ الملف اتجاهاً جديداً. وهنا يبرز الموقف الصادر عن دمشق أخيراً، الرافض إنشاء هذه المناطق الآمنة، إلّا بالحوار مع الأسد، لأنّ ذلك «سيكون أمراً خطراً». وفي هذا التحذير ما يكفي من معان، وموسكو تدعم دمشق في هذا الاتجاه.
إذاً، سيضع الأسد دول الجوار (لبنان والأردن وتركيا خصوصاً) والعرب (الخائفين على أنظمتهم من الإرهاب) والغرب (الخائف من الهجرة والإرهاب الإسلامي) أمام خيار صعب: إمّا أن نتعاون للمعالجة، وإمّا التأزم والانفجار أينما كان!
في المبدأ، الاتجاه يميل إلى التعاون. لكنّ كل طرف له حيثياته ومطالبه قبل أن يقول «نعم».
في لبنان، لن يبصم أفرقاء «14 آذار» على الاعتراف بالأسد، ولكن، سيقول لهم «حزب الله» وعون: هذا الملف سيفجّر لبنان. فهل تفجير لبنان أسهل من اتصال مع الأسد؟ وهل عندكم حلّ آخر؟
ولماذا نتصل بأجهزة الأمن السورية في محاولة لإنقاذ عسكريين، ولا نتصل بالمؤسسات الأخرى إذا كان الأمر ينقذ الكيان برمّته؟ ألم يتصل لبنان- ضمن لجان الارتباط – عسكرياً بالعدو الإسرائيلي لتحقيق مصلحة وطنية؟
وعندما يكون هناك سفير لدمشق في لبنان، يعترف به الجميع، وعندما يترجم هذا السفير العلاقات الديبلوماسية مع دمشق، أليس من التناقض رفض الاعتراف بالدولة التي يمثّلها؟
تحت هذه العناوين، سيتم التواصل رسمياً بين الحكومة اللبنانية ودمشق، بعد نضوج عناصر هذه العملية، على كل المستويات: السورية والعربية والإقليمية والدولية. وهو أمر لا يبدو بعيداً، لأنّ الملف السوري يتحرّك بسرعة. وعلى الأرجح، سيتمّ بين الربيع والصيف المقبلين. أمّا الرهان على الرفض الداخلي لهذه الخطوة فلا يبدو في محلّه.
هل يتحمّل فريق مسيحي كـ«القوات» المسؤولية عن رفضه معالجة ملف النازحين، بتداعياته الديموغرافية؟ وهل يتحمّل فريق سنّي كـ«المستقبل» المسؤولية أيضاً، فيما يؤكد حماسه لمعالجة الملف بلا أيّ اعتبار مذهبي، ومحو الصورة التي بدَا فيها النازحون الفلسطينيون يوماً «جيش السنّة»؟