كلام في السياسة |
كان معبّراً جداً منظر إحراق الطيار الأردني من قبل إرهابيي داعش. خصوصاً في مقابل كل المشهد الآخر، والموزع بين إحساس غربي بالعجز، وشعور عربي بالغضب، وكبت إسلاموي لعقدة عيب وحاجة سترة. الغربيون اكتفوا باعتماد القواعد المهنية: إخفاء الشريط عن شبكة إنترنت، ورقابة ذاتية في وسائل الإعلام، وانتظار للخبر التالي. العرب نفّسوا بعض عنترياتهم، مع أدبيات تصلح لكل مناسبة. بينما الإسلامويون انهمكوا في إشكالية جواز الحرق أو عدمه شرعاً.
بين ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن الوليد، وبين سوابق صحابة ومدلولات سنة، انتهى أكثرهم عصرنة إلى معاقبة الحارقين بالصلب أو تقطيع الأيدي أو الأرجل من خلاف. والمِن خلاف هذه، لمجرد العلم اللغوي والفيزيولوجي، تعني البتر المعاكس المتقاطع. أي قطع الذراع اليمنى مع الرجل اليسرى مثلاً، أو العكس.
غير أن المغزى الحقيقي الكامن خلف جريمة الحرق، غاب عن المكونات الثلاثة للمشهد. ذلك أنه لم يكن مجردَ إنسانٍ من أحرقه الوحوشُ قبل أيام. ولم يكن أردنياً وحسب، ذاك الذي حاصرته نيرانُ الهمجيين في ذلك القفص. كل الشعوب المقيمة على الأرض الممتدة من مينداناو في الفيليبين إلى مكاتب شارلي هبدو في قلب باريس، كانت معه فوق تلك النار. وخصوصاً كل منطقة الشرق الأوسط هي في ذلك القفص. ذلك أن العنوانَ الحقيقي للجريمة البربرية التي ارتكبت قبل أيام، والجوهر الفعلي لكل ما يحصل منذ أعوام، هو: الطبخ على نيران داعش!
فكما الطيار الأردني الشهيد في قبضة سفاحيه، كذلك هي خريطة المنطقة على طاولة جزاريها. سقطت كل الأنظمة الإقليمية السابقة. سقطت نظرية الاستقرار على قاعدة العسكريتاريات. بعدما رتبت على عرابي تلك النظرية أثماناً غالية، في الاقتصاد والأمن والديمقراطية وحقوق الإنسان. بعدها سقطت نظرية المشروع الإخواني. بدا لعرابيه أنفسهم أنه ولد ميتاً. فدفنوه فوراً مع سنة من حكم مرسي، ومع جثة مشوهة لسفير أميركي مسكين في بنغازي. بعدها عادت نظرية الفوضى البناءة، حتى أسقطتها دماء باريس وضواحيها، ورعب عودة «الإخوان السوريين» إلى بلاد المنشأ والتصدير والتحريض. كل النظريات المطروحة والمفكر فيها لاحتواء هذه المنطقة، ضمن ضابطين اثنين لا غير، أمن إسرائيل في قلب الشرق، واستجرار النفط إلى أرض الغرب، سقطت. لم يعد من سبيل إلا العودة إلى استراتيجية التفتيت. المبدأ ليس غريباً ولا جديداً. بدأ السعي إلى ترجمته حثيثاً مع حرب العراق. حيث وئدت أول حرب سنية شيعية معاصرة بلا ضوابط. بعدها اغتيل رفيق الحريري لنقل النار إلى بيروت. بعدها دمغت دمشق بسمة النظام العلوي في وجه أكثرية سنية لمد الألسن إلى دولة الأمويين المركزية، علها توزعها على كل المحيط… ولم يؤد ذلك كله إلى النتيجة المطلوبة بعد. لكن الطبخة استمرت، لم يكن يعوزها طباخون، ولا مكونات حقد وعنف محليين. كان لا يزال ينقصها مزيد من النار تحتها. فكانت داعش. هكذا وضعت كل المنطقة على نيرانها. حتى تنضج الطبخات المتعددة، تحت عنوان «مونو التفتيت». في العراق، طبخت حكومة بغداد الأخيرة على نار داعش. لا بل يجري إنضاج ثاني تفتيت عربي بعد السودان، على تلك النار. من يتصور بعد تلك الفظائع وجود مسيحيين في غرب العراق، أو إيزيديين في سهل نينوى، أو أكراد خارج «الإقليم – الدولة»؟! انتهت دولة العراق الواحدة. البديل غامض حتى اليوم. غير أن أجندته تطبخ على نار داعش.
في سوريا، بدايات التسوية المفروضة هناك، تطبخ على نار داعش أيضاً. أساس الطبخة في دمشق إنهاك كل الأطراف. إخراجهم من أتون الحرب جاهزين لأي حل أو صفقة. مع مقدار طافح من الحقد الأهلي والدم المدني ومن تشوهات الجماعات المغروزة في التاريخ البائد. في الأردن، زعزعة استقرار تلك الضفة من خربشات سايكس بيكو، يطبخ كذلك على نار داعش أو مثيلاتها. الوصفة السحرية هناك، هي مؤامرة جذب آخر الفلسطينيين الصامدين في وطنهم، ونقلهم من ضفة إلى ضفة، وفق قاعدة الوطن البديل. وصفة تنضجها نار داعش أيضاً. التغييرات المطلوبة في السعودية والخليج، خريطة اليمن غير السعيد، الفوضى المرجوة في ليبيا النفط الموزع تسهيلاً لنهبه على ثلاث ليبيات منبوشة من قرون ماضية، المشهد المخطط لمصر القاطرة العربية، من أجل تحويلها عن المشرق وحصرها في مستنقعات مغربها، مفصولة بحاجز فصل عنصري اسمه إسرائيل… كلها وصفاتُ سمٍّ قاتلة، تُطبخ على نار داعش ومثيلاتها. نارٌ قرر البعض أن تظل مشتعلة، وأن يظل الحقد يوقدُها، حتى تنضج مؤامرات الطباخين، وحتى يُطحن بحصنا وأرضنا والماء والثروات…
مسؤولية من تلك النار؟ طبعاً مسؤولية الغرب صاحب المصلحة. ومسؤولية العرب أصحاب السبات الكبير. لكنها تظل أيضاً وأيضاً مسؤولية الإسلامويين، حتى يدركوا أن انسجامهم مع ذواتهم، لا ينفي ثابتة تناقضهم مع مجرى تاريخ الإنسان.