كلّما نظرت إلى عناقيد النخيل الممتد على طول الطّريق أشعر أنّ شمس آب ستسلخ جلودنا حتى تستوي حبيبات نخيل بيروت، بالرّغم من أيام اللّهب الحمراء لشهر آب اللهّاب تسيطر البرودة على الواقع السياسي اللبناني المتجمّد، لا خطوة إلى الأمام ولا إلى الوراء، الأفق اللبناني مسدود حتى الآن!
في انتظار حدث ما يملأ الزمن اللبناني الضائع والمقتطع من وقت المنطقة، كلّ عام يهلّ علينا شهر آب، ويطلّ معه منخفض الهند الموسمي ونيرانه الحارقة والغالب على مزاج اللبنانيين هذه الأيّام حال من الضجر والسأم العام من المشهد اليومي المملّ في البلد من حال العجز إلى كلّ ما نراه في لبنان يقف مترنّحاً في لبنان في انتظار المجهول، يشبه حال لبنان هذه الأيام المثل الشعبي «آب أراضيه محل وأنهارو وحل وجبالو طحل»!
تمرّس اللبنانيون منذ أربعة عقود في حالات الهرب من الواقع السياسي وتجاهله وإدارة الظهر له، الهروب إلى آب ومنخفضه الهندي وجمرات القيظ فيه أفضل بكثير من الحديث عن الانسحاب الإيراني 85 كيلومتراً عن الحدود مع إسرائيل في هضبة الجولان، أو عن إيران التي على وشك الانهيار، أو عن التدني غير المسبوق في سعر الليرة التركيّة، أو عن «شعور» الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنّ الإيرانيين سيتحدثون مع الأميركيّين، على الأقل في الحديث عن لهب آب بعض التفاؤل في الأمثال الشعبيّة، بالرّغم من أنّ «آب بيبس النهور أو بنشف الجباب»…
في عزّ الحريق، تجد الأمثال الشعبيّة تفتح لك الطريق إلى الشتاء، إذ يصادف في 6 آب عيد التجلي فيقول المثل: «عيد التجلي بقول للصيف ولّي وللشتا دلّي»، هذه ثقافة بثّ الأمل في النّفس البشريّة، و»بـ 8 آب يطلع نجم سْهيل وبيبرد اللّيل» وفي آب يجرشون البرغل وتغنّي الصبيّة «والله لطحن برغلكن/ ناعم وخشن ووسطاني/ والله لصير كنّتكن/ إن عشت وربي خلاني»، لا يوجد أجمل من خبرة الثقافة والأمثال الشعبيّة، خلاصة تجارب من سبق لمن لحق، وفي منتصف آب تهبّ ريح الحرور (أي الحارة) وهي التي يسمونها هذه الأيّام سيطرة منخفض الهند الموسمي وقيل فيها «أيام الحرور الشمس بتشوي رأس العصفور» وبعدها يقولون «رتحت البروح والصيف قال: بخاطركن أنا رايح روح».
وما نعيشه اليوم من حال المراوحة ليس بسيناريو جديد على لبنان! ميزة هذا الشعب أنه لا ييأس ـ مهما ظنّه البعض يئس ـ مهما اسودّت في عينيه الألوان، يقع ويقوم ويظل كذلك إلى ما لا نهاية، فإنْ وقع فهذا ليس عيْباً، وهو بالتالي ليس نعجة، وإذا قام فهو قادر على مفاجأة العالم!! قد يكون عيب الشعب اللبناني «قصَرُ النّفس»، وربما السبب في ذلك تغاضيه عن الذين يواجههم لهم سياستان ثابتتان، سياسة المماطلة والمناورة والتذاكي إلى حد الغباء لتضييع الوقت!
لكلّ شيء آخر، حتى آب له أواخره في الأمثال الشعبيّة ففي آخر آب يكثر ثمر (قلب الطير) ويقولون: «نزل قلب الطير وقال: بقي أربعين ينزل الخير (المطر)»، وفي أواخر آب موسم التفاح وقالوا فيه: «إجا التفاح والصيف راح» و»بس يبلش التفاح يلوح نزّل فرشتك عن السطوح» أو يغنّون له «يا رابط الأبيض على التفاحي/ عند الحليوة راح صار سحب السلاحي [يا رابط أي يا عاشق]».. وعن أواخر آب يقولون «راح آب الشتا دق الباب»، و»ما راح آب حتى الحجر داب»، الصمت تقنية دأب عليها اللبنانيون هم غالباً ليسوا غوغاء يهرجون ويمرجون، الصمت أحياناً وسيلة اعتراض مُثلى على كلّ ما يحدث، لأنّنا لسنا وقوداً ولسنا أيضاً ثيراناً هائجة، ولا كلاباً تنبح طوال الوقت!