الآن وقد ختم الرئيس باراك أوباما تركته التاريخية بالاتفاق النووي مع إيران وبإحياء علاقة ثنائية قوامها الشراكة الإستراتيجية بين واشنطن وطهران، أمام دول مجلس التعاون الخليجي خيارات محدودة ليست كلها سيئة أو سلبية. الوقت ليس وقت الندب أو الندم. منذ البداية، أوضحت الولايات المتحدة ان المصالح لغتها وأن آخر همومها أن تُتهَم بالخيانة والانقلاب على الحليف. واضح الآن ان «الصبر الإستراتيجي» مارسته الديبلوماسية الإيرانية بحنكتها المعهودة واعتمدته الديبلوماسية الأميركية تكتيكاً مدروساً للوصول الى تحقيق غايات النقلة النوعية في العلاقة مع ايران. ما سيترتب على تلك النقلة ينطوي على شراكة أمنية أميركية – إيرانية تريدها طهران، تنصّب نفسها فيها الطرف الموثوق به للانتصار على «داعش» وأمثاله ممن يمثل التطرّف السنّي ويتسم بالإرهاب، وتقدم نفسها فيها الراعي للمصالح الأميركية البديل عن مجلس التعاون الخليجي. لا يكفي ان تصرخ دول في مجلس التعاون احتجاجاً أو أن تتسرّع الى التهديد بتلقين درس هنا أو المكابرة هناك. الأمر يتطلب مقاربةً إستراتيجية جديدة وواعية وحكيمة تشمل الاستعداد للتخلي عن فكر «المواقف الثابتة» باعتباره مصدر الكرامة ورفض التنازل. لا عيب في التأقلم مع وقائع أفرزها «الصبر الإستراتيجي» – ليس بمعنى الانحناء والخضوع أمامها، وإنما بمعنى الإقرار بها وأخذها في الحساب لدى الجلوس إلى طاولة رسم الإستراتيجيات في مقاربة شاملة تنطلق من مراجعة النفس والاعتراف بالأخطاء واستعادة الثقة بالذات والجرأة على المفاجأة.
باراك حسين أوباما خَتَم على صنع سيرته وتركته للتاريخ ختم البيت الأبيض، ولن يتراجع. قد ينجح الكونغرس بحجب رفع العقوبات الأميركية عن إيران، إنما الأرجح أن يسيل لعابه وهو يدقق في تدفق الوزراء ورجال الأعمال الكبار من ألمانيا وفرنسا وروسيا والصين وبريطانيا إلى طهران للاستفادة من الانفتاح وأسواق النفط أو السلاح.
فما إن بدأ يجفّ حبر قرار مجلس الأمن الذي حوّل التفاهم بين إيران و5+1 إلى اتفاق دولي، حتى اسرع الى طهران نائب المستشارة الألمانية انغيلا ميركل وزير الاقتصاد والطاقة زيغمار غبريال لحصاد ما استثمرته ألمانيا في ايران – وهو ضخم لأن ألمانيا نصّبت نفسها المدافع الأول عن المصالح الإيرانية. ألمانيا تنظر الى ايران كما تنظر الى اسرائيل من منطلق علاقاتها مع العرب. فهي ترى ان ايران لم تعتدِ على أي جار عربي بغزوه عبر الحدود – شأنها شأن اسرائيل وفق الفكر الألماني. وبالتالي ان الطرف المعتدي في الحالتين هو العرب بغض النظر عن الأدوار الإيرانية في سورية مثلاً، بالتدخل العسكري هناك أو في لبنان حيث ايران نفسها و «حزب الله» معها يقرّان بالتحالف بينهما ونفوذ القرار الإيراني في لبنان. فألمانيا قد «تتعاطف» مع اللبنانيين في هذا الصدد لكنها «تتحالف» عملياً مع ايران حيث مصالحها الاقتصادية.
حاول زيغمار غبريال رفع الغبار عن السمعة الألمانية فطرح في طهران مسائل حقوق الإنسان وأوضاع المرأة وسمع الجواب بأن ذلك ليس من شأنه أو شأن بلاده. لم يخطر على باله طرح الأدوار الإيرانية الإقليمية التي أصرّ على دعم طهران في رفض التحدث عنها أثناء المفاوضات. لم يحتجّ على التدخل العسكري الإيراني في سورية شأنه شأن الـ 5 الآخرين، لأن هذه الدول قرّرت تصنيف التدخل الإيراني العسكري في سورية والعراق في خانة سحق «داعش» ومكافحة الإرهاب. قرّرت الدول الخمس المكلفة ضمان احترام قرارات مجلس الأمن ان تغض النظر عن انتهاكات ايران لقرارين تم تبنيهما بموجب الفصل السابع الملزم تضمنا منع ايران من تصدير السلاح والرجال والعتاد خارج حدودها – لا الى معركة ميدانية ولا الى ميليشيات.
حتى وزير خارجية فرنسا، لوران فابيوس، الذي كان أكثر الوزراء الست تدقيقاً في نصوص الاتفاق النووي، سارع الى طهران لمناقشة «كل المواضيع» في أول زيارة لوزير خارجية فرنسي للجمهورية الإسلامية منذ 12 سنة. كان فابيوس صريحاً عندما قال لإذاعة فرنسا الدولية «صحيح ان فرنسا كانت صارمة للغاية. هل تُعاقَب الشركات الفرنسية؟ جوابي هو لا لأنه في الماضي كان لنا وجود مهم في ايران. ما لنا (من خبرة) في الكثير من المجالات ممتاز، والإيرانيون جديون».
بريطانيا متأهبة للاستفادة من الانفتاح والتطبيع مع ايران وهي كانت في طليعة استعادة العلاقات الديبلوماسية معها. الصين جاهزة كالعادة لقطف الثمار، بالذات نفطياً، وفي الأسواق الإيرانية حيث للبضاعة الصينية آفاق. روسيا تُعتبر الحليف الأقرب الى ايران سيما في علاقاتهما الثابتة في الشأن السوري والقرار الإستراتيجي الإقليمي وفي الحرب على الإرهاب السنّي، وموسكو جاهزة للاستفادة من السوق العسكرية الإيرانية ومتأهبة ليس فقط لتصدير السلاح اليها وإنما لإنماء القدرات النووية السلمية.
لعل الولايات المتحدة تبدو أقل المستفيدين من الصفقة النووية مع ايران، لكن الرغبة الأميركية الصارمة انطلقت من رفض المواجهة العسكرية مع الجمهورية الإسلامية ومنع اسرائيل من جرّ الولايات المتحدة الى مواجهة عسكرية مع ايران. المؤسسة العسكرية الأميركية ستستفيد لأن الولايات المتحدة ستحاول طمأنة دول مجلس التعاون الى استمرار العلاقة التحالفية معها من خلال بيع السلاح وربما من طريق «مظلة أمنية» تتطلب استثمارات خليجية ضخمة في المؤسسة العسكرية الأميركية.
بالتأكيد اسرائيل ستستفيد مهما تظاهرت بأنها تتعالى على زيادة الدعم العسكري الأميركي التي حملها وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر إليها هذا الأسبوع. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يتظاهر بالاحتجاج القاطع على الاتفاق النووي، إنما في الواقع، هو احتجاج ضعيف منذ البداية. واليوم تتسرّب أنباء بأن نتانياهو سيغيّر إستراتيجيته العازمة على حضّ أعضاء الكونغرس على رفض الاتفاق النووي. سيتصرّف بإستراتيجية جديدة على ضوء ما حصل. سيستمر في الخطاب السياسي التصعيدي، لكنه مرتاح جداً الى ما أضفاه الاتفاق التاريخي من اعتراف بشرعية ايران وشرعية فرض الدين على الدولة. فهذا ما يسعى وراءه وسيمضي الى الحصول على اعتراف دولي بشرعية الدولة اليهودية في اسرائيل. والسابقة الإيرانية مفيدة لإسرائيل.
أشتون كارتر عقد محادثات في السعودية والأردن في أعقاب زيارته اسرائيل وحمل الى البلدين تطمينات ثنائية أمنية. وزير الخارجية جون كيري سيتوجه الى الدوحة الأسبوع المقبل لإجراء محادثات مع دول مجلس التعاون لإعطاء التطمينات السياسية.
على دول مجلس التعاون أن تتجهّز بإستراتيجيات مبدعة وجديدة ومدهشة. ذلك أن الغرب والشرق اعتادا على نمطية السياسات الخليجية وبات الإثنان يأخذان في الحساب هامشاً من التوقعات بناءً على تلك النمطية. وللصراحة، لقد أعطى بعض دول مجلس التعاون ذخيرة للتنبؤات ولأخذ ردود فعلها كمادة مضمونة في الحسابات، الاستياء والتذمّر ثم الانسياق إلى الخيارات المحدودة. هذا مؤذٍ للمصالح الخليجية والعربية بعامة وربما من المفيد الآن استنهاض جدوى المفاجأة والإدهاش.
أولاً، ليس في المصلحة العربية اعتبار الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية هزيمة للعرب – حتى ولو كان حقاً كذلك في تفسير بعضهم. نفسية الهزيمة بحد ذاتها مؤذية ومكلفة ولا داعي لها. إيران رابحة بالتأكيد من الاتفاق النووي الذي يرفع العقوبات عنها، ويخرجها من العزلة، ويصنّفها شريكاً إستراتيجياً، ويؤهّلها لاعباً إقليمياً مهماً. إنما هذا لا يعني تلقائياً أن الربح الإيراني يساوي الخسارة العربية. الرابح واضح، وهو طهران. إنما الخاسر ليس بالضرورة الرياض أو القاهرة سيما إذا أحسنت العواصم العربية المعنية التفكير إستراتيجياً وخرجت بمفاجأة الإدهاش الإستراتيجي.
ثانياً، مثل هذا الإدهاش يتطلّب التفكير في الحلول الضرورية والملحّة للنزاعات في الدول العربية ويتطلّب التخطيط الجدي لما ستؤول إليه منطقة الشرق الأوسط بعد 10 سنوات، أي بعد نفاد الوصاية الدولية على الطموحات الإيرانية.
هذا يعني أن على أصحاب القرارات العربية وعلى القيادات الخليجية بالذات عقد العزم على معالجة جذرية للنزاع في اليمن إما بتصعيد عسكري حاسم أو عبر تسوية سياسية تنطوي على تنازلات مؤلمة. وفي الحالتين لا مناصَ من أخذ زمام المبادرة إلى خطة إنقاذ وتنمية تضع حداً للكارثة الإنسانية المؤلمة في اليمن.
بكلام آخر، لا داعي لانتظار بوادر حسن النية أو سوء النية من إيران في أعقاب الاتفاق النووي، ولا فائدة من التوسل إلى الولايات المتحدة وشريكاتها في نادي 5+1 للتأثير في طهران ولجم شهيتها الإقليمية في اليمن أو كبح عزمها على امتلاك سورية – أو جزء منها بعد تقسيمها – لتكون ممراً إستراتيجياً لها إلى إسرائيل وعبر «حزب الله» في لبنان.
فلقد اكتسبت دول خليجية سمعة في الحرب السورية تستغلّها طهران اليوم وهي تحيك الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة تحت عنوان الشراكة الميدانية لسحق «داعش»، وفي بال طهران زجّ جميع أقطاب المعارضة السورية المسلّحة تحت عنوان مكافحة الإرهاب في سورية. وفي بالها أيضاً بناء شراكة أميركية – إيرانية أمنية في العراق تمهيداً لترتيبات أمنية بديلة عن مجلس التعاون الخليجي.
طروحات هذه الترتيبات معروفة وأوضحتها طهران وهي عازمة على المثابرة الإستراتيجية لتصل إلى أهدافها. الدول العربية الفاعلة تعتمد تقليدياً أنماط ردود الفعل الإستراتيجية بدلاً من المثابرة الإستراتيجية والاستفادة من زخم المبادرة.
فإذا كان مصير سورية التقسيم، فليكن سريعاً بدلاً من المزيد من القتل والتشريد بهدف استكمال التنظيف العرقي الضروري للتقسيم الطائفي. إذا كان رفض التقسيم جدياً، على الدول العربية المعنية تبنّي إستراتيجية تصعيديّة جديّة، الأرجح أنها غير راغبة فيها ولا هي قادرة عليها. وبالتالي، على القيادات المعنية اتخاذ قرارات جديدة عنوانها إما الانخراط العسكري الكامل أو الانخراط السياسي مع طهران مهما كان ذلك مؤلماً لها.
وإذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي عازمة على منع تفكيك المجلس كجزء من إستراتيجية طهران لإنشاء نظام أمني جديد، من الضروري لها الإمعان في ورشة فكر تأخذ في الحساب شقّ المجلس نفسه وشقّ الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية وما يتطلبه من سياسات جذرية نحو مصر. إنما في الوقت ذاته، مثل هذه الورشة الفكرية يجب أن تدقّق في إمكانية الاستفادة من طروحات لنظام أمني جديد يضم إيران والعراق ومصر وتركيا إلى جانب دول مجلس التعاون. فلتأخذ هذه الدول مسار تلقي الطرح وأخذ زمام المبادرة.
أخيراً، هناك رأيان حول الاتفاق النووي، أحدهما ينذر بتسليط إيران على الدول العربية وتمكينها من السطوة، والآخر يبشّر بعلاقات آمنة وتعاونية بين إيران الاعتدال والدول العربية بعد التخلص من التطرّف في الصفوف العربية والإيرانية، السنّية والشيعية. كلا الاحتمالين يتطلب جديداً في الفكر والفعل العربي غير ذلك المعهود تقليدياً. فلقد حدث اهتزاز في المعادلات الإقليمية والدولية، وهذا يتطلّب أكثر من ردود فعل على تداعياته. يتطلّب نقلة نوعية في الفكر والإستراتيجية العربيين.