يَعلق اللبنانيون وسط جائحة كورونا وجنوح السلطة وأدواتها الحكومية التي لا يكبحها كابح، على قاعدة “إثنان أحلاهما مرّ”، حتى باتوا يُؤثرون الجائحة الموقتة مهما استطالت كونها ستحط رحالها ولو بعد حين، مقابل جنوح سلطوي شبق فاقع مستبد مزمن لا قرار له.
ومع هذا كله تُغري جائحة كورونا السلطة بسياسة المزيد من الشيء نفسه، فالمحاصصة لم تزل المحدد للسياسات الحكومية، والمحرك لمشاريع القوانين وإقرارها في مجلس النواب، وحتى القوى الأمنية والعسكرية، ترسم خططها الأمنية والعسكرية، استناداً لمعيار المحاصصة وقواعد الحكم لدى السلطة، التي باتت عارية من كل ما يرمز الى الدولة، ومتفانية في ترسيخ النفوذ الحزبي والفئوي على حساب نفوذ الدولة وسلطتها، اذ لم تغيّر ثورة تشرين في مقاربة ملف الكهرباء، ولم يؤد الانهيار المالي والاقتصادي، الى تبديل ذهنية مقاربة مشاريع القوانين، التي تقوم على تقاسمها، بناء على ما يوفر كل منها مكاسب فئوية او حزبية بالدرجة الأولى، كقانون العفو العام، وقبله قانون النفط الذي جرى رسم مواده على مبدأ المنفعة الفئوية والحزبية. ولا امكن تفكيك مافيا استيراد النفط، ولم يجر المسّ بكل المكاسب غير العادلة وغير المشروعة، تلك التي تتمثل بوضع اليد او استثمار الأملاك العامة على امتداد اراضي الجمهورية اللبنانية.
هذا غيض من فيض، غاية الاشارة اليه، ان اللبنانيين عموماً، امام سياسة المزيد من الشيء نفسه، وهو ما تكشفه الحكومة الحالية يوماً بعد يوم، فهي حكومة لم تظهر انها منسجمة مع ما ادعته في بيانها الوزاري، وفي خطاب رئيسها حسان دياب بعد التكليف وخلال التأليف وغداة نيل حكومته الثقة، انها حكومة مستقلين بعيدة عن الحزبية والفئوية والمحاصصة، لكن ذلك كله لم يظهر شيء منه، بل عكسه تماما، حيث برزت كل الموبقات في مقاربة ملف التعيينات، وفي ملف التشكيلات القضائية، وفي عدم الاقتراب من ملفات الفساد، ولا في استنقاذ المؤسسات العامة على اختلافها من براثن الاحزاب ومافياتها التي تتقاسم الفساد بالعدل والقسطاس.
هذه المعادلة تستقي قوتها من نظام مصالح اقطاب السلطة واحزابها باسم حقوق الطوائف، وتكتسب قوة استمرارها من خلال ما يوفره “حزب الله” من حماية لها، كما جرى خلال انتفاضة 17 تشرين، لقد ادرك “حزب الله” منذ البداية، ومنذ ان خرج اللبنانيون الى الشارع، ان سقوط الحكومة ومعادلات السلطة، هما الخطر الكبير على دوره ونفوذه وتحكمه، لذا كان الأكثر بطشاً بكل الأصوات الحرة والمنتفضة في وجه السلطة، وعمل ليل نهار على انهاء الانتفاضة وخنقها وتفكيكها، من المواجهة المباشرة عبر مجموعات القمع المنظم تحت شعار “شيعة شيعة…” في وسط بيروت وفي مناطق اخرى في البقاع والجنوب، وعبر اختراق الانتفاضة بمجموعات تتلقى تعليماته بغاية ضرب وحدتها وتشتيت قدراتها، واخيراً وليس آخراً، عبر المزيد من احكام القبضة والسيطرة على السلطة من خلال الإتيان بحكومة تسلم مكوناتها وتتماهى مع حقيقة ان الأمين العام لـ “حزب الله” هو الحاكم والوصي والمرجع في قرارات الحكومة بل الدولة على وجه العموم.
على هذا المنوال مشت الحكومة، مسلّمة ومستسلمة لهذه المعادلة، بما يعني المزيد من عزلة لبنان وتأزمه، عزلة عربية بالدرجة الأولى، وغربية متنامية، تخرقها اهتمامات تتصل بالأمن الاقليمي واللاجئين، من قبل بعض الجهات الدولية.
جائحة كورونا وان كانت وفّرت للسلطة والحكومة فرصة من الراحة مع انكفاء التحركات الشعبية والمطلبية في الشارع، الا انها ساهمت بكشف المزيد من الهشاشة الاقتصادية والمالية والصحية، بطبيعة الحال، وفاقمت الأزمة المعيشية، ومع ذلك ايضا المزيد من الشيء نفسه، الذي رسخ في الوعي العام، ان السلطة تحاول اعادة انتاج نفسها من دون ان تتوافر لديها اي فرص لانتشال لبنان من بئر هي من حفرته ورمى الدولة بمؤسساتها وشعبها في غياهبه، وبدأت اخيراً كتعبير عن الافلاس السياسي، خلق عدوّ وهمي خارجي، لتحمّله كل تبعات السياسات التي انتهجتها. فبعد ان ترسخت معادلة الاستقرار على الحدود اللبنانية، على قاعدة الهدوء المقدس لاسرائيل، والعمليات الامنية المدروسة في سوريا ضد الميليشيات الايرانية، بات حديث الممانعة هذه الايام، عن هجوم سياسي اطلقته السفيرة الاميركية في بيروت ضد الحكومة، تزامن مع تصريحات للسفيرة الاميركية جددت فيها الموقف الاميركي من سياستها تجاه لبنان، لم يحمل جديداً.
لعل اكثر ما يزعج الممانعة واحزابها انها وهي ازاء انكشافها امام جمهورها واللبنانيين عموماً، باتت تستجدي اي تسوية مع الخارج، تسوية تحفظ سلطتها ولو كان الطرف الآخر هو “الشيطان الأكبر” لا بل انها تبدو مستاءة الى حدّ الحيرة والإرباك، حيال عدم مسارعة احد من الدول “الاستكبارية” سواء كانت عربية او غربية على الشد من أزر خصوم الممانعة واعدائها، فحتى عملية اخراج أو رمي بعض القوى من التمثيل الحكومي، لم تغر أحداً من اطراف الخارج، بل تراكض هؤلاء ممن كانوا في جبهة 14 اذار، الى نيل الرضى من حزب الممانعة وقائده حسن نصرالله، ولم يسمعوه ما كان يتوقعه ويحبذه من كلام مسيء او مستفز، بل حرصوا على مراضاته، مكتفين بالتصويب على “بي الكل” وصهره وعلى الموظف برتبة رئيس حكومة.
ما لا تريده الممانعة بحزبها القائد ومجموعاتها اللبنانية، ان تصدق انها هي الحاكم والمتحكم، وأن أحداً لن ينازعها على سلطانها في هذا البلد، اما محاولة افتعال خصم اسمه حاكم مصرف لبنان، فهو أمر سيؤدي الى تفاقم خسائرها، فرياض سلامة مهما قيل في ادارته وسياسته وهو صحيح، ما كان ليتم لولا أنه لم يكن يستجيب لمطالب “حزب الله” ومعاوني الأمين العام في الرئاسات الثلاث في الحكومة السابقة والحالية.
التخبط والإفلاس والإفقار هي عناوين الحكومة وراعيها، والأنكى في مسار سلطة الممانعة، ان يمسي اي صراخ شعبي من آفة الفقر والبطالة والجوع، هو فعل مؤامراتي، وهذا عنوان الافلاس بل قمته ان تتحول تلك الجماهير التي سمتها ابجديات الممانعة بالكادحين والمحرومين والمستضعفين، الى فئات شعبية متآمرة وخائنة، في لحظة رفع الصوت ضد الفاسد والسارق ولحظة الصراخ من شدة العوز، ولحظة المطالبة بإسقاط حكم الفاسد.