الفرق بين شخص وآخر في هذه الأيام هو تليفون.. الفرق بين المبدع والسخيف تليفون.. الفرق بين الحاقد والمحبّ تليفون.. الفرق، كل الفرق هو في هذا المتذاكي الصغير الذي يرفع الواحد فينا أو يبقيه حقيراً.
وبينما تنشغل الناس في الحجر الصحّي بين فتح باب برّاد وفتح شاشة تليفون، وبينما يتعثّرون بين «تَلييك» على تعليق وسندويش مرتديلا، أو بين صورة أو فيديو وكمشة فستق حلبي محطوط على كريما، هناك فئة قليلة من الناس انتبهت إلى أنه يمكنها، بهذا الفرق، أن تصنع كلّ الفرق، في حياة الجماهير اليومية، من خلال تليفون.
مع كلّ رنّة نكتشف خبراً، ومع كل خبر كذبة، ومع كلّ كذبة قلقاً وخوفاً وتوتّراً.. حتى بتنا لا نعرف الحقيقة من الواقع، والغد من الجحيم.
ولكن مع كلّ هذا، بقيت هناك رنّات لا تشبه صوت التليفونات، رنّات حناجر أمام الميكروفون ورنّات أنامل على آلات موسيقية، و»بسّ يعلّق الخطّ» نصبح على اتصال مباشر مع المبدع رايان الهبر الذي كتب ولحّن ووزّع أغنية «بالحجر الصحّي»، التي قدّمتها بأجمل إحساس الفنّانة شانتال بيطار، مع مجموعة من الموسيقيين المتطوّعين على آلات جمعت بين سحر الشرقي والغربي.
في أغنية «بالحجر الصحّي» التي انتشرت بين الناس كالنار في الهشيم، يكتسب الملل رومنسية ويتزيّن الشوق بالعذوبة، وتتحوّل الموسيقى إلى لقاح يشفي الكثير من آفات فيروس كورونا بكلمات بسيطة كان كلّ شخص فينا قادراً أن يكتبها، إذ تحكي حال الجميع في هذا المنفى الاختياري عن كلّ الأشياء التي نحبّها واعتدنا عليها واشتقنا لمزاولتها… لكنّ الفرق أنّ رايان الهبر سبق الجميع إلى كتابة وتلحين هذه الأغنية التي تحوّلت منذ صدورها إلى نشيد لبناني لفيروس كورونا، واستطاعت بجمالياتها وبساطتها أن تجعل المرض أسهل والأزمة ألطف والخوف أسخف… فالتهمتها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن مَلّت من طعم الكذب والأخبار الملفّقة والقلق الذي يقاسمها أكلها وشربها وفراشها.
والذي يشاهد فيديو الأغنية يلاحظ مباشرة أنّ كلفته ليست بآلاف الدولارات أو تمّ الاستعانة مثلاً باختصاصيين أوروبيين لتصويره… ولكن لا يمكنه ألّا يلاحظ أنّ قيمة هذا الفيديو هي في العمل الموسيقي الجبّار والكلمات البسيطة التي يمكن أن تحرّك كثيراً من الأشياء التي لم تتحرّك فينا منذ أن رَبضنا على طراريح الكنبايات.
في قديم الزمان، كنّا ندفع مبالغ مرقومة لنحجز مقاعد الصفّ الأول في المهرجانات والاحتفالات، حتى نسجّل موقفاً لا أكثر أمام إبداعات «التيكتيك والتيعا».. لكن في حفلة «بالحجر الصحّي»، جلسنا جميعنا في الصفّ الأول ولا يفصل بيننا وبين المسرح سوى طول ذراعنا التي تحمل التليفون، من دون أن يحجب رؤيتنا إبهار الإضاءة الذي يخفي عادة الكثير من عيوب الصوت واللحن، ومن دون أن يزعجنا زعيم بدخوله أو زوجته بخروجها مع الحاشية. وكلّ ما شدّنا إلى الأغنية هو البساطة في التنفيذ والحرفية في الكتابة والتلحين، وجعلتنا نحسّ بأهميتنا لمجرّد كوننا نتمتّع بامتياز سماع هكذا نتاج في هكذا دولة وهكذا ظروف.
هناك أشياء كثيرة ستتغيّر بعد كورونا، ومن الأشياء التي لا بدّ أن تتغيّر هي سياسة الانتاج الفنّي في لبنان التي منحت لسنوات طويلة قوة الاحتكار لبعض الفنانين والفنانات الذين مَسخوا هويتنا الموسيقية وشوّهوا طبلة أذننا. وإذا كان لا بدّ من التغيير، فلا شكّ في أنّ هناك عدداً لا يستهان به من الموسيقيين والفنانين المغمورين الذين لا تَسع مسارح المهرجانات الصيفية لإبداعاتهم. فالموسيقيون القادرون أن يحوّلوا الحجر الصحّي إلى مهرجان، لن يعصى عليهم تحويل وجه لبنان الفنّي إلى إبداع يسابق الأجانب على الآذان العطشى إلى الجمال.