تحذير فرنسي من الوقوع في «هــاوية» ذات بُعدين إقتصادي وأمــنــي
إرتفاع منسوب التوتــر على الحدود الجنوبية والبـلــد إلى مزيــد من الإنقسام
تُشير التطوّرات التي طالت المشهد السياسي الأسبوع الماضي، إلى أن التشاؤم هو سيّد الموقف. وعلى الرغم من أن الحلول سهلة نظريًا، إلا أن تنفيذها على الأرض يصطدم بجبل من التعقيدات التي تفرضها الإنقسامات الداخلية مدعومة بامتدادات خارجية. وغياب سلطة قوية تملك استراتيجية إصلاحية على الأمد الطويل يُفسّر إلى حد كبير المشاكل التي تعترض الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في لبنان.
زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الأسبوع الماضي إلى بيروت أتت لتؤكّد المؤكّد: لبنان بات على حافة الهاوية! هذا ما قاله الوزير الفرنسي في ختام زيارته مُندّدًا بالمماطلة في إجراء إصلاحات أساسية لحصول لبنان على مساعدات. وإذ أبدى إستعداد فرنسا لمساعدة لبنان، ربط هذه المساعدة بإجراء الإصلاحات والتي من الظاهر أنها تمتد لتشمل الشقّ السياسي المُتعلّق بالنأي بالنفس.
الهاوية التي تحدّث عنها المبعوث الفرنسي تشمل شقّين: إقتصادي وأمني. فعلى الصعيد الإقتصادي، يبقى السيناريو الأكثر إحتمالا للتطوّرات السلبية هو التضخّم الذي يفرضه حظر قدوم الدولارات مع إقتصاد يعتمد بشكل أساسي على هذه العملة الصعبة. وإذا كان اللبنانيون يعتقدون أن ما يعيشونه الآن من غلاء في الأسعار هو قمّة ما سيصل إليه الوضع، فهم على الأكيد مُخطئون! وللتذكير وصل سعر ربطة الخبز في تركيا في العام 2005 إلى خمسة ملايين ليرة تركية! أيضًا يحتاج مواطن فينزويلي لعربة من المال لشراء خبز! إنه سيناريو العزل الذي تمتدّ أبعاده لتطال الشق السياسي.
أمّا أمنيًا، فتُشكّل الهاوية التي يتحدّث عنها لودريان المواجهة مع العدو الإسرائيلي التي بدأت معالمها تظهر أكثر فأكثر مع تهديدات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو بقوله أن سوريا ولبنان يتحمّلان مسؤولية أي إعتداء على إسرائيل ينطلق منهما مُحذّرًا من العواقب لأي هجمات على إسرائيل. وتزامن هذا الأمر مع تفجيرات طالت منشآت عسكرية في إيران أغلب الظنّ أنها منشآت صواريخ بعيدة المدى، كما طالت منشآت داخل سوريا وإعتراض لطائرة مدنية إيرانية كانت مُتوجّهة إلى بيروت، وكأن النية هي بتعطيل قدرة إيران الصاروخية حيث إتهمت واشنطن طهران بخرق قرار حظر الأسلحة. وتزامن هذا الأمر مع تفعيل لمنظومة الردع الصاروخية أو ما يُعرف بالقبة الحديدية في شمال فلسطين المُحتلّة مما يدل إلى أن إحتمالات المواجهة العسكرية بدأت بالإرتفاع.
عمليًا هذه التطوّرات تشلّ عمل الحكومة بجزء كبير وتحصرها بإدارة أزمة الكورونا التي من الظاهر أنها خرجت عن السيطرة ودخلت إلى نادي السياسيين من باب مدير مكتب وزير الخارجية والنائب عقيص مما إستدعى تأجيل الإجتماع النيابي الذي كان دعى إليه رئيس المجلس نبيه برّي.
إنقسام عامودي… حاد
الإنقسام على الساحة السياسة أصبح واضحًا بين مشروعين يتعارضان في كل شيء. ويزيد من هذا الإنقسام عدّة عوامل نذكر منها:
أولآ ـ التوريط، التدخل والتدويل: أثبتت التجارب التاريخية أن تدخل وتورّط القوى الأجنبية هو المُحرّك الأساسي للصراعات الداخلية وحتى مع الخارج. ونُلاحظ أن كل فريق يُحاول إشراك قوّة خارجية بهدف تعزيز موقفه داخليًا حيث يتجلّى هذا الإشراك من خلال تدخل القوى الأجنبية في شؤون تُصنّف محليّة بحت! ويقول الباحث هنري لورنس أن الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط تعمل بهذه الطريقة وذلك منذ قرون على مثال أزمة العام 1840 حين دعى العرب فرنسا وبريطانيا لطرد الأتراك من الأراضي العربية.
ثانيًا ـ منطق التخوين: هذا المنطق تمّ إعتماده في
الحرب ضد الأمبريالية حيث قامت الأنظمة العربية بتخوين بعضها البعض مما أّدّى إلى حالة من عدم الإستقرار في هذه البلدان. فعلى سبيل المثال إعتمد جمال عبد الناصر استراتيجية التخوين بحق بعض الأنظمة العربية ودعاهم بعملاء الامبريالية، وبالتالي عملاء الصهيونية. وبذلك أصبحت استراتيجية محاربة الإمبريالية أداة للصراع على السلطة داخل البلدان العربية وفي نفس الوقت صراعاً ضد التدخل الخارجي وهذا ما أدى لإضعاف الأنظمة العربية بمعظمها. ووصل هذا التخوين إلى حدّ شيطنة الخصم وإعطاء بعد ديني للصراع.
ثالثًا ـ تضارب الروايات: مفهوم الرواية مفهوم طاغ في الشرق الأوسط، ويعمل كمصفوفة إجراءات وسرد للتاريخ يُنتج لدى عامة الشــعب سلوكاً معيناً تتعزز معه المعارضات ويُؤمن إستــمرارها. وما الخلاف على كتاب التاريخ في لبنان إلا دليل على مُشكلة التضارب في الروايات والذي يُعزّز الإنقسام.
رابعًا ـ ثقافة الحرب: تنص هذه الثقافة التي تعود إلى قديم الزمان على أن التأزم السياسي (Deadlock) لا يُمكن الخروج منه إلا من خلال عمل عنيف يمكنه حلحلة الوضع وخلق تنازلات.
خامسًا ـ تراكم الأخطاء: يأتي تراكم الأخطاء من منطلق وقوع الزعماء في أخطاء حسابية دائمة وغير عقلانية تدفع بهم إلى اتخاذ قرار مبني على القرار الأول وبالتالي ينتج عن ذلك عدة قرارات خاطئة تُعزز كل طرف في رأيه.
عودة كورونا
التطوّرات السياسية تزامنت مع عودة فايروس كورونا إلى الإنتشار بشكلٍ كبير في لبنان حيث دخل إلى نادي السياسيين من باب مدير مكتب وزير الخارجية الذي نقل الفايروس إلى صديقه النائب جورج عقيص. هذا الأخير كان قد إلتقى العديد من المسؤولين السياسيين ومنهم دولة الرئيس نبيه برّي وشارك في عشاء في دارة الوزير السابق ملحم الرياشي مما فرض حملة كبيرة من فحوصات الـ «PCR» للمعنيين.
وباء كورونا عاد إلى الظهور بشكل مُريع مع تسجيل لبنان إصابات بمُعدّل يومي يُقارب المئة إصابة وذلك منذ الثالث عشر من تمّوز الجاري. التحاليل الإحصائية تُشير إلى أنه وقبل ذلك التاريخ، كانت الإصابات اليومية ناتجة عما يُسمّى بـ «العشوائية» (Random)، لكن ومنذ الثالث عشر من تموز، يشهد لبنان تعديل في هيكلية منحنى الإصابات اليومية مما يطرح سيناريوين:
أولاً ـ إزدياد الإصابات نتيجة التراخي في تطبيق الإجراءات الإحترازية ومنها ارتداء الكمّامة وحفظ مسافة مع الأخرين.
ثانيًا ـ إزدياد الإصابات نتيجة مصدر خارجي أو غير معروف وهو ما تُرجّحه بعض المؤشرات الإحصائية (Statistics) التي تُقلّل من قدرة السيناريو الأوّل على إعطاء هذا العدد من الإصابات اليومية.
وبغضّ النظرّ عن السيناريو المطروح، هذا الواقع فرض على الحكومة خياراً بين إثنين:
– إقفال البلد لإحتواء الإصابات خصوصًا أن قدرة المستشفيات الاستيعابية وصلت إلى القمّة. وفي المعلومات أن مجلس الدفاع الأعلى يتّجه إلى إقفال البلد مجدّداً مدّة 15 يوماً قابلة للتجديد، مع الإبقاء على فتح المطار ضمن شروط مشدّدة وذلك رغم معارضة وزير الداخلية الإقفال التام.
– أو عدم إقفال البلد مع زيادة الإجراءات الوقائية وإقفال الأماكن العامّة مثل المطاعم وغيرها. وبحسب المعلومات، فإن الحكومة حدّدت خيارها من خلال رفضها إقفال البلد نظرًا إلى الظروف الإقتصادية الصعبة والأوكسيجين الذي يُمثّله دخول دولارات الوافدين إلى لبنان عبر المطار.
توقّعاتنا تُشير إلى أنه على الوتيرة نفسها، سيصل عدد الإصابات التراكمية في لبنان إلى 5980 إصابة في 9 آب المقبل وهي المدّة اللازمة لظهور مفاعيل أية إجراءات رسمية نظرًا إلى فترة الـ «incubation» للفيروس.
مشاريع الحكومة
تُشير المعلومات إلى أن الحكومة اللبنانية بصدد أخذ قرارات تشمل: (1) تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي على سعر السوق في شهر أيلول (بحدود الخمسة ألاف ليرة لبنانية)، (2) زيادة الأجور للقطاع العام والقطاع الخاص، و(3) إقرار سلّة ضريبية جديدة لتمويل خزينة الدولة.
على كل الأحوال، الزيادة في عدد الإصابات بوباء كورونا سيُعطّل إلى حدٍ كبير هذه المشاريع التي يُمكن تصنيفها بمشاريع أو قرارات «ذات تدعيات خطيرة» نظرًا إلى الأولويات التي تفرضها أية عملية إنقاذية للبنان من الأزمة الحالية.
ويُشير مصدر مُطّلع إلى أن الحكومة تتجه إلى تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي على سعر السوق وذلك في شهر أيلول المقبل بالتزامن مع طلبها من حاكم مصرف لبنان ضخّ الدولارات بهدف لجم التدهور في السوق السوداء وطلبها من الأجهزة الأمنية التشدّد في ضبط التلاعب في السوق السوداء. وبحسب المصدر، يعتقد وزير المال غازي وزني أن سعر 5000 ليرة للدولار الواحد سيكون هو السعر الأقرب إلى الواقع.
بالطبع هذا الطرح هو طرح خطير له تداعيات كارثية على المواطن ومُخالف للدستور الذي ينصّ على الإقتصاد الحرّ. وإذا كان مصرف لبنان قدّ ثبّت سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي، إلا أنه لم يُخالف القانون نظرًا إلى الهامش الذي تركه لليرة ونظرًا إلى إستخدامه آليات السوق لفرض سعر الصرف داخل الهامش. أيضًا لا يوجد أي مسوغ قانوني يسمح للحكومة اللبنانية بالتدخّل بالسياسة النقدية للمصرف المركزي وبالتالي يُمكن للمجلس المركزي لمصرف لبنان أن يرفض طلب الحكومة نظرًا إلى التعدّي الفاضح على السياسة النقدية من قبل السلطة التنفيذية.
على الصعيد الإقتصادي، خفض سعر صرف الليرة سيزيد من الفقر حيث سيطال كل المُجتمع اللبناني باستثناء الطبقة الغنية والتي لها نفوذ واسع مما يطرح أسئلة حول أهداف خفض سعر الصرف. أيضًا سيؤدّي خفض سعر الصرف إلى مشاكل قانونية مثل الحدّ الأقصى للإستدانة والبالغ نسبة الـ 33% من إجمال الدخلّ! إذ كيف سيتمّ ترجمة هذا الإرتفاع في القروض المصرفية، سعر البنزين، التلفون، الأدوية، التأمين، الطبابة، الضرائب وغيرها؟ في الواقع ستُشكّل هذه الخطوة عملية إفقار واضحة للشعب اللبناني كل ذلك بهدف تنفيذ الخطّة الحكومية المبنية على التضخمّ لخفض الخسائر! هذا الأمر صّرح عنه أحدّ المستشارين المشاركين في المفاوضات مع صندوق النقد خلال إطلالة تلفزيونية الأسبوع الماضي، وهو ما يُعطي فكرة واضحة عمّا تنوي الحكومة القيام به وما ينتظر المواطن اللبناني من مآسي.
زيادة الأجور لا تقلّ خطورة عن خفض سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي! فالمعروف أن العجز في الموازنة وصل إلى 4 تريليون ليرة لبنانية في الأشهر الخمّسة الأولى من العام 2020 حيث يقوم مصرف لبنان بطبع العملة لتغطية هذا العجز على وتيرة 1.5 إلى 2 تريليون ليرة شهريًا. وبالتالي فإن زيادة الأجور في القطاع العام ستؤدّي إلى زيادة الطبع ومعه التضخّم وإنخفاض سعر صرف الليرة مما يجّعل من عملية تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي الذي تنوي الحكومة القيام به، هو عملية ورقية بحت، وسيُدخل لبنان في حلقة مُفرغة من التضخمّ المفرط المُحدّد إقتصاديًا بـ 50% شهريًا! أمّا زيادة الحدّ الأدنى للأجور فسيؤدّي إلى ضرب الوظائف حيث ستعمد الشركات إلى خفض عدد الوظائف لديها لخفض الكلفة وهو ما سيكون له تداعيات إجتماعية كارثية أيضًا.
أما الخطوة الثالثة الخطيرة التي تنوي الحكومة القيام بها نزولا عند رغبة صندوق النقد الدولي، فهي سلّة ضرائب جديدة مؤلفة من 64 صفحة رفعها وزير المال غازي وزني إلى مجلس الوزراء للبحث فيها. هذه الخطّوة تُشكّل مخالفة واضحة لكل العلوم الإقتصادية التي تنصّ على عدم فرض ضرائب في فترات الإنكماش أو الكساد الإقتصادي إذ كيف سيكون بمقدور المواطنين والشركات في هذه الظروف الراهنة دفع ضرائب؟ وبالتالي، نرى في هذه الخطوة علمية إنصياع جديدة للإملاءات الخارجية التي تذهب عكس مصلحة الشعب اللبناني.
الأولوية للإصلاحات، ولكن أي إصلاحات؟
ما تُحضّر له الحكومة من خطوات تُسمّيها «إصلاحية» هي إصلاحية في قاموس صندوق النقد الدولي. ويستخدم صندوق النقد الدولي عبارة «إصلاح» لكل إجراء يهدف إلى رفع الإيرادات، خفض الإنفاق، وخفض عجز ميزان المدفوعات. وبالتالي نستنتج أن كل ما طرحته الحكومة في خطّتها «الإنقاذية» يذهب باتجاه إرضاء الصندوق مثل الضرائب والخصخصة التي ترفع الإيرادات، وخفض عدد موظفي القطاع العام التي تُخفّض النفقات، وتحرير سعر صرف الليرة مما يُخفّض عجز ميزان المدفوعات على حساب أمن المواطن الغذائي. هذا الميزان وبسبب الإجراءات الحكومية، ما يزال يُسجّل عجزًا كبيرًا نسبة إلى مداخيل الدوّلة.
والأصعب في الأمر، أن الحكومة تستخدم «الدعم» لتمرير إجراءاتها مع العلم أن صندوق النقد لن يوافق على إستمرار هذا الدعم وهو ما دفع وزير المال في إطلالته الإعلامية الأخيرة إلى القول إنها مؤقّتة.
في الواقع هــناك أوّلوية في الخطوات الواجب على الحكومة إتخاذها. وتنصّ هذه الأولوية على بدء الإصلاحات التي تهدف إلى خفض الإنفاق وتعظيم الإستفادة من مرافق وممتلكات الدولة. وهذا الأمر يشمل محاربة الفساد الذي سيُخفّض النفقات الجارية (الكهرباء، التهرّب الضريبي، التهريب الجمركي…) والشراكة بين القطاعين العام والخاص لتعظيم الإستفادة من المرافق العامّة (كازينو لبنان، المرفأ، المطار…).
إن ما تقوم به الحكومة حاليًا من خطوات هو نقل الإقتصاد اللبناني من إقتصاد حرّ إلى إقتصاد موجّه عبر إستخدام الأداة القانونية. وهذا الأمر سيكون له تداعيات كبيرة على ثقة المستثمرين الذين سيرفضون الإستثمار في بلد تُدير المحاصصة السياسية، سياسته الإقتصادية.