أمس، سجلت في مدينة صيدا أربع وفيات بسبب فيروس «كورونا»، أضيفت إلى خمس وفيات سجلت خلال الأسبوع المنصرم. الموت الذي لم يعد شبحاً فرض حال طوارئ في المدينة، تعمل خلالها البلدية صيدا والجمعيات الأهلية على رفع الوعي تجاه الجائحة التي لا تزال بالنسبة إلى كثيرين مجرد «رشح» لا يحتاج إلى كل «هذه الهيصة»!
«بلدية صيدا مفلسة وتحتاج إلى الدعم. لذلك أعلنت أن المدينة منكوبة بالكورونا لتحصل على الأموال». خلاصة توصل إليها الشاب الذي يعمل في شركة تنظيفات، ما يمكّنه من دخول بيوت المدينة ومحالها بشكل يومي. هو، كالكثيرين من أقربائه وجيرانه في صيدا القديمة، لم يقتنع يوماً بتدابير الوقاية، كارتداء الكمامة أو التعقيم. أمام دكان جارته، يدخل مع آخرين في نقاش حول الجائحة، ينتهي بتباين حاد في الآراء بين موافق ومعترض على وجودها وعلى الوقاية منها. تنفث الجارة دخان نرجيلتها على من حولها قبل أن تقول بثقة: «إنه كريب (رشح) قوي ليس جديداً علينا»، فيما تتبنّى شقيقتها نظرية المؤامرة، إذ إن «المستشفيات تعمد إلى تصنيف المرضى والوفيات كمصابين لتقبض من الدولة أموالاً عن كل حالة»، رافضة، بحدة، «الادعاءات» بانتشار الفيروس. عدّدت أسماء عديدين قيل إن فحوصات الـ PCR التي خضعوا لها جاءت إيجابية، مصرّة على التشكيك في إصابتهم: «عندما انتشر جنون البقر، حظينا بتناول اللحم بسعر رخيص. وعندما شاعت أنفلونزا الطيور، أتخمنا بالدجاج. وعندما حذروا من تلوث البحر، تلذذنا بكل أنواع السمك. ولا نزال بخير». صاحب محل الحلاقة المجاور لا ينكر وجود الفيروس، إلا أنه لم يقتنع بجدوى وضع الكمامة رغم احتكاكه بالعشرات في محل لا تزيد مساحته على مترين. الكمامة، بالنسبة اليه، ليست حلاً. «الحل بالإقفال العام… لكن هذا مستحيل لعدم قدرة الدولة على تأمين معيشة الناس في حال توقفوا عن العمل».
في أحد الأزقة الضيقة التي تشق حواري صيدا البلد، يخرج العجوز من بيته نحو المسجد لأداء صلاة الجماعة، كما اعتاد يومياً. بين بيته والمسجد لا يرى ضوء الشمس الذي تحجبه الأبنية المتهالكة التي يسند بعضها بعضاً و«كابلات» الكهرباء المتشابكة. يتلوى جسده النحيل الذي تلامسه أجساد المارة من حوله. نصحه أحدهم بارتداء الكمامة لأنه يعاني أمراضاً مزمنة. أخرج قطعة بيضاء يميل لونها إلى الرمادي بسبب اتساخها. وضعها على فمه وهو يتمتم: «الكورونا عندي في البيت»، في إشارة إلى الرطوبة التي تأكل الجدران والسقف. سمع العجوز بأن كثيراً من الإصابات في صيدا انتقلت بالعدوى داخل المساجد. «أصلي وأنا جالس على الكرسي في إحدى الزوايا بعيداً عن المصلين»، قال باطمئنان.
تلك «الاجتهادات» لا تقتصر على «العامة» فقط. أحد المخاتير الذين تستعين بهم وزارة الداخلية والجمعيات لرفع مستوى الوعي تجاه الفيروس، يؤكد أن هناك «تضخيماً لأعداد الاصابات، والأرقام أقل من ذلك بكثير». أما الوفيات بسبب كورونا، فربطها بأن «الموت علينا حق. الناس تهاب شهر شباط لاعتقادها بأنه يحصد أرواح العجائز. والآن باتت تهاب كورونا للسبب نفسه. من هنا، تعددت الأسباب والموت واحد»!
يبدو التعامل مع كورونا في صيدا القديمة معقداً. ليس بسبب استهتار البعض بخطورته وبتدابير الوقاية منه فحسب، بل بسبب معوقات بنيوية ومجتمعية تجعل من ضبطه مهمة مستحيلة. على مساحة كيلومترات قليلة، يقيم الآلاف، وسط كثافة سكانية مرتفعة وظروف غير صحية في مساكن ضيقة تضربها الرطوبة بسبب ملاصقتها للبحر. فكيف السبيل إلى تحقيق التباعد الاجتماعي أو الحجر الإلزامي أو الوقائي في مكعبات متراصة؟
تتحاشى السيدة الجالسة في الزقاق التفكير باحتمال إصابتها هي أو ابنها بالفيروس. إمكانياتها البسيطة تسمح لها فقط بارتداء الكمامة. أما في ما عدا ذلك، كالتعقيم والتباعد، فلا قدرة لها عليه. تسكن مع ابنها في منزل كان في الأساس بهواً صغيراً تحت قنطرة سدت جوانبه بالحجارة، فصار منزلاً من غرفة واحدة وحمام. «كل الناس على باب الله. لا أحد يتحمل أحداً»، في إشارة إلى استحالة أن يغادر أحدهما المسكن في حال أجبر على الحجر.
يصعب التقيد بالتدابير الوقائية ليس بسبب الاستهتار فقط، ولكن بسبب الكثافة السكانية والظروف غير الصحية في مساكن متراصّة
في منزل لا تزيد مساحته على سبعين متراً، أصيبت عائلة كاملة بالفيروس. التقط أفرادها العدوى من قريب يسكن بجوارهم ويمضون وقتاً طويلاً معه، ولا سيما في تناول النرجيلة. أحدهم كانت عوارضه الأصعب. «مات وعاش. يبست أطرافه والتهبت رئتاه وارتفعت حرارته، ما استدعى دخوله المستشفى»، قالت والدته. الأخيرة أصيبت أيضاً هي وزوجها وأولادها وكنّتها باستثناء واحد تشدد في الوقاية، لأنه يعاني من مرض. رغم شفائهم، لم تقلع العائلة عن عاداتها القديمة. في يوم العطلة، يتجمعون في المنزل الصغير، يتناولون الطعام والنرجيلة ويتنزهون ويتجوّلون بين الناس أحياناً من دون كمامة، لاعتقادهم بأنه باتت لديهم مناعة ضد كورونا!. أكثر ما آذاهم من تلك الجائحة، ليس انقطاع النفس أو آلام العظام والحرارة، بل تجنّب الجيران والأقرباء لهم حتى بعد شفائهم. «كأننا نعاني من الإيدز»، تشكو الوالدة.
1150 حالة في صيدا
بحسب رئيس وحدة إدارة الكوارث والأزمات في بلدية صيدا، مصطفى حجازي، بلغ عدد الإصابات التراكمي في صيدا وضواحيها 1343 حالة حتى نهاية الأسبوع الماضي. أما مجموع الحالات النشطة، فقد أقفل أمس الثلاثاء على حوالى 1150، فيما الحالات الجديدة التي سجلت في صيدا، خلال الأسبوع الأخير، بلغت 200، في مقابل 41 في مخيم عين الحلوة و 175 في ضواحي صيدا. أما عدد الوفيات منذ بدء الأزمة فقد بلغ 15 شخصاً. يربط حجازي ازدياد العدد باستهتار الناس واستمرارهم في ممارسة أنشطتهم الاعتيادية من العمل إلى المناسبات الاجتماعية وارتياد المطاعم والملاهي الليلية. ولفت إلى أن الشرطة البلدية لا تملك صلاحية لضبط المخالفات وإجبار الناس على الالتزام، لكن يلزمها غطاء ومؤازرة من الأجهزة الأمنية.
محجورون… وعائدون من الحجر
في غرفة نوم بناتها الثلاث، تمضي منى (50 سنة) فترة حجرها الإلزامي بعد تشخيص إصابتها بكورونا قبل أيام قليلة. بين الغرفة الصغيرة والحمام المجاور، تنعزل في البيت المؤلف من طبقتين، تقيم فيه مع أسرتها وعائلة زوجها. حتى الآن، لم يثبت إصابة أحد من المقيمين معها، رغم أنهم يشتركون في جميع الأنشطة، من تناول الطعام إلى السهرات. أسرتها التي نجت من عوارض الجائحة، تعاني من الإرباك بسبب غياب ربة المنزل. «العائلة كلها عاجزة والبيت مخروب»، تقول في اتصال مع «الأخبار». شقيقتها تؤمن لها الأطعمة الكفيلة برفع مناعتها كالفواكه المجففة وشوربة الخضر. أما زوجها، فيعمل على توفير حاجياتها ويضعها أمام الباب.
لكنّ سنية (22 عاماً) لم تحمل هم تدبير أمور منزلها بعد إصابتها بالفيروس. لم تغادر غرفتها التي تسكنها بمفردها في الأساس. في بداية الحجر الذي استمر 11 يوماً، شعرت بأنها مسجونة في زنزانة ضيقة، قبل ان تبدأ باكتشاف غرفتها وأغراضها التي لم تنتبه إلى كثير منها «لأنني كنت أمضي معظم الوقت خارج المنزل بين عملي والتنزه والسهر». أبرز ما أعادت اكتشافه، آلة الرياضة التي كان قد علاها الغبار. مارست الرياضة والرقص وأمضت وقتاً في الغناء ومشاهدة الأفلام. والمهم أنها امتلكت وقتاً كافياً لمراسلة أصدقاء وأقرباء انقطعت عنهم منذ مدة طويلة. لكنها اشتاقت إلى «الكزدورة» بين غرفتها والبراد الذي كانت تقصده بقدر حبّها للطعام. بعد التثبت من شفائها، تحرّرت من سجنها الصغير لتخرج إلى السجن الكبير. «بعض أصدقائي تجنّبوا رؤيتي بعد شفائي لأكثر من أسبوعين».